الأرضةُ والمستأرضون: بلاءٌ مُسلّطٌ على عدن ومخزونها الفكري الحضاري! 
 
دودة الأرضة، او النمل الأبيض، هي حشرة فتّاكة تقتات على الخشب والحبوب ومافي حكمهم، ومالا تتمكن من إلتهامه، تعمل على إفساده وتعطيل خواصه وطبيعته.
 
كذلك يُضرب المثل (أفسد من الأرضه) لمن يُعرف بفساده. وسيُشار إليه فيما بعد (المستأرض أو المستأرضين) حيثما ورد في سياق النص.
 
ومن الواضح الجلي أن عدن بأرشيفها وإرثها الفكري الحضاري، قد أبتلت بالآفتين معاً، (الأرضة والمستأرضين)، أي أجتمع عليها العسرين في حين توجب الإكتفاء بعسرٍ واحد فقط لأنه (لا يجمع الله بين عسرين)!
 
لطالما تشكل هذه الحشرة (حقيرة الحجم وخطيرة الفعل) هاجس مرضي وعدو مقيت بالنسبة لي، وخصوصاً فيما يتعلق بالحفاظ على مكتبتنا الشخصية، مكتبة والدي المؤرخ سلطان ناجي، رحمة الله تغشاه.
هذه المكتبة التي شغف والدي بها وعنى بجمع محتوياتها من كتب وقصاصات ووثائق وصور مدى عمره وحتى الساعات الأخيرة قبل رحيله المصادف لمثل هذا اليوم 6 أبريل 1989م.
كما أنها تمثل لي شخصياً، كأحد أبنائه والقيّمة عليها، أمانة في عنقي وإرثاً حضارياً أفخر به وأقلق عليه في نفس الوقت.
 
والقلق مردّه أنني كلما أقرأ الواقع أكثر وأحاول إستشراف المستقبل، لا تظهر أمامي سوى صورة موحشة حزينة لما قد تؤول إليه المكتبة، وبأنها لامحالة ستواجه نفس مصير قريناتها في عدن.
فكم من مكتبة خاصة وشخصية في عدن، كانت غنية بمحتوياتها النادرة، أفنى صاحبها عمره في تجميعها وحفظها لتعم فائدتها جميع المهتمين والباحثين خدمة للعلم وللبلاد إلا أنها في الأخير كان مصيرها الفناء بعد أن تمزقت وتبعثرت محتوياتها القيمة النافعة ما بين (شراهة دودة الأرضة ونفايات الشوارع)! 
 
وقد تعددت الأسباب الظاهرية للمصير المأساوي لمكتبات وأرشيفات عدن، فمنها ما تمت مصادرته من قبل الدولة، أو تم طرد وتهجير وملاحقة أصحابها ظلماً وقسراً، أو تم إغتيالهم سياسياً ومعنوياً وبدنياً أيضاً. ومنها بسبب وفاة أصحابها أو عجزهم وعوزهم، وغير ذلك من الأسباب مع عدم وجود الخلف المناسب المحافظ عليها بعد غياب أصحابها، ولهذا لاقت مصيرها المحتوم!
 
ولهذا، يمكن إعتبار أن السبب الحقيقي والمباشر لكل تلك المآسي والمصائر المحزنة لمكتبات وارشيفات عدن هو (المستأرضين) وأداتهم الدنيئة سيئة الصيت والفعل (الأرضة)!
أما أسباب إنتشار وإستفحال آفة (الأرضة) فعديدة، منها عوامل بيئية وبيولوجية محضة، وأخرى بشرية صنعتها يد الإنسان (المستأرض)، الذي سن وأصدر بإسم الدولة وسلطتها، التشريعات والسياسات التجهيلية المدمرة، وعاث في الأرض فسادٍ نتج عنه عجز في أداء أجهزة الدولة التخصصية لواجباتها، وتدهور البنية التحتية والتخطيط الحضري للمدينة، وتدني خدمات الصحة البيئية فيها.
 
ولي مع هذه الحشرة حربٌ سِجال، هزمتني مرة وهزمتها مرات. وكم أبذل من جهد ومال لمكافحتها وللحد من إنتشار تلك الكائنات البغيضة الجائعة النهمة هادمة الحضارات، والتي تقتات على ماتنتجه الطبيعة والإبداع الإنساني من خشب ومنسوجات وورق وكتب حوت كل علم وفن وأدب. 
 
كما أجزم بأن كل بيت ومرفق حكومي في عدن يشكو من الأرضة وله من بصماتها نصيب.
فهذا نخرت أو ألتهمت سقف بيته وأبوابه وآثاثه، وذاك ملابسه ومنسوجاته ولوحاته وكتبه، وذلك المرفق أُتلفت أوراقه وسجلاته الرسمية وأختلط الحابل بالنابل فأُهدرت حقوق الناس وتضررت مصالحهم.
 
وأما ما تبقى من مُبدعي هذه المدينة من أهل العلم والفكر والأدب والثقافة والفن والتخصص، فقد هزمتهم هذه الحشرة (الوحش) شر هزيمة، وأصابتهم في مقتل حين غزت عوالمهم المتواضعة، ومحارب علمهم، وصوامعهم، ومكتباتهم الثمينة بما حَوَته من إبداعاتهم وإبداعات غيرهم، وكأن هذه الحشرة (النكرة الحقيرة) لا تكفيها (وليمة الخشب والنسيج) الدسمة ولا تشبع نهمها، لذلك هي دائمة البحث عن (التحلية)، والتحلية هي عدن ومخزونها الفكري الحضاري!
لهذا، نجد هذه الحشرة الخبيثة لا تنفك (تغزو وتنخر وتلتهم إرث عدن المعرفي المدوّن ورقياً) كيفما كان وأينما وجِد، والمتمثل في أرشيفها العام والخاص والشخصي بكل محتوياته من ورق وكتب وصحف ولوحات فنية وتشريعات وسجلات الدولة.. إلخ.
 
وهي بفعلتها الشنيعة هذه، لا تقضي على الأرشيف وأصحابه فقط، وإنما يتجاوز أثرها إلى القضاء على تاريخ هذه الأمة، وعلى حاضرها ومستقبلها بالضرورة.
 ولأنني ممن يؤمنون بـ (نظرية المؤامرة)، وخصوصاً كلما عجزت عن تفسير الواقع بشكل عقلاني، ولأنني شخصياً في مواجهة وحروب مستمرة مع هذا الكائن الضّار المُتطفّل، وأستغرب لماذا يلقى هذا الدعم اللامحدود من الدولة، مالم تكن هي نفسها (مستأرضة)، كونها لا تستشعر الخطر ولا تبذل مجهود يُذكر لمكافحته بل تركت له (الحبل على الغارب) منذ الإستقلال عن الإستعمار البريطاني عام 1967م وحتى هذه اللحظة.
 
لذا، تشكل لدي يقين بأن أفعال (دودة الأرضة) هذه وما تعيثه من فساد، ليست ناجمة عن عوامل بيئية أو بيولوجية محضة على الإطلاق وإنما ناجمة عن فعل فاعل، عن (المستأرضين) تحديداً، وأنهم ينفذون مؤامرة خارجية، من العيار الثقيل، تستهدف عدن، الدولة والجغرافيا والإنسان.
 
مؤامرة بدأت، منذ فجر (الإستقلال الضائع)، بالعبث في حقوق وهوية أبناء هذه المدينة العريقة المتميزة، مروراً بطمس معالمها وجغرافيتها، وصولاً إلى إندثارها في نهاية المطاف... نعم لهذه الدرجة شطحتُ بخيالي (التأمري) إلى أبعد مدى!
 
 ومع ذلك، وبعيداً عن نظرية المؤامرة وخيالي التأمري، فلنسلّم جدلاً أن هذه (الآفة البيولوجية) هي وحدها المسئولة عن كل هذا الدمار الشامل، وإنها هي من هزمت الدولة والشعب، وأنه بإستثناء بعض المجهودات الفردية التطوعية المحدودة التي يقوم بها بعض المهتمين لدوافع خاصة، فأن المسئولية الأكبر والأهم لمكافحة تلك الآفة يجب أن تتحملها الدولة دون تأخير.
فهل لنا أن نطالب دولتنا النزيهة (غير المستأرضة)، صاحبة الأرشيف العام، والمسئولة حُكماً على الأرشيف الخاص والشخصي، أن تستشعر مسئوليتها و تستنهض الهمم لإنقاذ مايمكن إنقاذه مما تبقى من مخزون عدن الفكري الحضاري وذلك حفاظاً على وجودها وديمومتها هي نفسها كدولة أو ،على الأقل، حفاظاً على ماء وجهها!
*من صفحة الكاتبة على فيسبوك