100 شخص غادروا الحياة في صنعاء هذه الليلة. هذه الحادثة، يُفترض أن تكون شهادة عار في وجه كلّ من يدير مصير هذا الشعب. حادثةُ "وفاة الفقراء" قاسية وأشدّ مرارة من كل قسوة يعيشها اليمنيون الأحياء. ثياب الفقراء مبعثرة في الشوارع، وداع حزين يُعرّي وجودنا المكشوف. ذهبوا ليعودوا بقليل من الفرح؛ فعادوا بمأتم كبير وبعيد أسود، مظلم وكالح ككل أيام السنة، كحياة اليمني الخفيضة والمستهان بها في كل مكان.
"مجزرة الفقراء" هي ناتج عرضي لتلاشي قيمة الحياة بشكل عام. الحياة بطبيعتها مقدسة، حتى لو لم تملك ثمن إفطارك. لكنّ حياتنا نحن اليمنيون رخيصة، رخيصة منذ مولدنا حتى الممات. لسنا من اختار هذا المآل، لكن هناك من صمم حياتنا وجعلها عُرضة لهذا الهوان. حياة محاطة بخذلان واسع ودائم. ثم تختم بنهاية أشدّ إيلامًا. كأن تموت ويدك ممدودة نحو جدار ثم تُصلب في الشارغ دونما غريم سواك.
وكأن وجودك أيها اليمني منذور للفناء في كل الأحوال. أن تتعرض الطبقة المسحوقة للموت بهذا الشكل، لهو أمر مهين لحُكّام البلاد ونخبتها. لم يموتوا جوعًا، فقد كان بمقدورهم تدبير حياتهم كيفما اتفق. لكنهم فقدوا أرواحهم في لحظة كانوا فيها يحاولون التشبث بأيّ نافذة تمد لهم شيء من الفتات. فالحياة مفخخة في الشوارع كما البيوت. هل هذا ذنب الناس أم جناية سلطة..؟
لقد غادروا الوجود، ومهدي المشاط والتاجران السلاليان محمد علي، ومحمد عبدالسلام، يتمخطرون في القصر الرئاسي في صنعاء. يتباهون أنهم نجحوا في تثبيت سلطتهم وانتزاع مزيد من التنازلات. إنهم لا يشعرون بالخجل من أنهم يحكمون عاصمة يموت فيها 100 إنسان بحثًا عن 5 ألف ريال يمني لا تكفي قيمة جعالة لطفل واحد.
إن كان هناك من فكرة يتوجب التذكير بها، فهي فكرة للمتعبين، للفقراء النبلاء: أيها الإنسان المثخن بالجراح: تذكّر أن وجودك في هذه الحياة قدسي، حتى وأنت مجرد من كل أدوات القوة ومن كل أسباب البقاء. جدير بك أن تحرس حياتك من كل مواطن الهلاك. ولو لم تعد ضامنًا لقدرتك على البقاء يوما واحدًا.
مرارة الظروف السيئة ليس في عجز الإنسان عن تدبير معيشته فحسب. لكنها تتجاوز ذلك، ففي الظروف القاسية تميل الروح الإنسانية؛ لتبخيس نفسها، أقدس جزء منك يتعرض للتآكل. حينها يسهو الإنسان وربما يعجز عن استشعار قداسة حياته. في لحظة كهذه لا تجدي كل المواعظ في أن تعيد للإنسان شعوره الأقصى بكرامته الوجودية. ما لم تُعيد تأمين وجوده الواقعي.
وعليه لم يتبق أمامنا من شيء لنؤّمن وجودنا المستباح، سوى أن نتكئ على ذواتنا المحطمة. مهمتك وحدك، أنت، أيها البائس، ليس مدافعة الظرف السئ فحسب؛ بل وحراسة روحك بصرامة من أن تخدش قدسيتها أو تفرط فيها. لا شيء بمقدوره أن ينال منك ولو اعتكفت في بيتك على أن تتقبّل مساعدة في ظروف تنال من روحك فضلا عن تعريض حياتك كلها للخطر.
وحدها روح الإنسان بطبعها مصانة من أي أذئ، ما لم تسمح أنت بذلك. ما لم ينخفض استشعارك لنفسك وتغدو مستعدا للموت، قبول الذل ومدافعة أخوك البائس مثلك، ثم الموت معًا، وأنتم الذين لم تعيشوا بعد بما فيه الكفاية.