هي الحرب في تعز، الواقعة إلى الجنوب الغربي من اليمن، حربٌ بلا هدنة ولا أخلاق، قصف متواصل وشهداء بالعشرات ومساحة القصف تشمل معظم الأحياء تقريبا، حتى الآن الإحصائية تشير إلى استشهاد 19 مدنيا وجرح أكثر من 70 آخرين، يتوزعون بين أطفال ونساء وكهول.
لا هدنة حاليا في تعز، ولا معنى للمشاورات التي لا تساندها هدنة، ولا تحترم في ظلها الدماء المعصومة.
المشاورات الخفية التي تجري تحت قناع مشاورات الكويت، ومنسوب النجاح والإخفاق ومستوى الضغوط أيضا، هي التي تفسر لماذا عاودت مليشيا الحوثي وقوات المخلوع صالح قصف تعز بهذه الصورة الوحشية، وارتكاب جرائم الحرب بحق المدنيين في هذه المدينة، تزامنا مع قصف متبادل يجري على الحدود مع المملكة.
الجميع اهتم بما يدور على الحدود، رئيس وفد مليشيا الحوثي إلى مشاورات الكويت، استدعي على الفور إلى منطقة "ظهران الجنوب" بالمملكة العربية السعودية، للبحث في تدهور الهدنة وانفراط عقدها على الحدود.
لكن لا أحد يكترث تجاه مأساة تعز، وتجاه جرائم الحرب التي تُرتكب بحق أبنائها. كان يفترض بالمتحدث باسم أمين عام الأمم المتحدة على الأقل أن يقول شيئا نيابة عن بان كي مون الذي رغم إسرافه في التعبير عن مشاعر القلق إزاء أحداث العالم، فإنه يبدو بخيلا جدا تجاه ما يجري في تعز.
لا يبدو أن الجرائم التي ارتكبها المتمردون بحق مدينة تعز ستؤثر على مجرى النسخة المعلنة من مشاورات الكويت، فقد أريد لهذه المشاورات أن تستمر بلا مشاعر ولا مسؤوليات أخلاقية تجاه جرائم الاعتداءات، ولما لا فهذه المشاورات ليس إلا مجرد غطاء لمشاورات سرية هي التي ستسمح بإطلاق الدخان الأبيض في سماء الأزمة اليمنية.
الانشغال بترتيب الوضع السياسي للمليشيا يطغى على الترتيبات التي يفترض أن تنهي آثار الحرب والانقلاب، وتطوي هذه الصفحة السوداء من تاريخ اليمن.. والمصيبة الكبرى أن هذه الترتيبات ليس في وارد ترشيد دور المليشيا الطائفية بل تمكينها.
بقدر دورها وإسهاماتها الكبيرة في مجريات الأحداث تعاني تعز مما تعاني منه اليوم ويدفع أبناؤها ثمنا باهظا لموقفهم الوطني، ونضالهم وتضحياتهم.
لا يتوقف الأمر على قصف مدينتهم الرئيسية تعز وقراهم المحيطة، بل تعرضوا ولا يزالون لأسوأ معاملة في مدينتهم الثانية عدن، على يد حلفاء الحوثيين "الحراك الجنوبي الانفصالي"، وتحت أنظار القوة الثانية في التحالف العربي (الإمارات) التي تعتقد أن تعز هي عبارة عن ملايين من الإخوان المسلمين الذين يتعين إبادتهم.
هناك صمت قاتل من جانب الغرب الذي يُفترض أنه يتمتع بحساسية خاصة تجاه الانتهاكات، لكنه توقف عن أحاسيسه وتسلح بحالة مشبوهة من بلادة المشاعر تجاه ما يجري في تعز والمدن السورية.
أسوأ شيء هو الشعور بالخذلان من جانب الأمم المتحدة، واللوم الكبير يقع على هذه المنظمة والوكالات التابعة لها، لأن هذا هو واجبها المفترض، نظير ما تتلقاه من دعم مالي من حكومات العالم وبينها الحكومة اليمنية، وحينما تقوم بواجبها تجاه سكان الأرض، فهذا هو الطبيعي، لكن حينما تقصر فهذا ما يتعين توضيحه هنا.
إذ لا تفسير لهذا الخذلان الأممي سوى أن المنظمة الدولية مرتهنة للأجندات السياسية التي أظهرتها وأظهرت الوكالات التابعة لها، متواطئة، إلى حد الشراكة، في الجرائم التي تتعرض لها مدينة تعز منذ أكثر من عام.
ويتحمل وزر ما يجري في تعز أيضا الرئيس هادي ونائبه السابق خالد بحاح، اللذين تواطآ (رغم خلافهما على المصالح)، مع التحالف في إبقاء تعز خارج أجندة التدخل العسكري.. لم يتصور المتابع لسلوك الرئيس هادي، أن يظل هذا الرجل مرتهنا للدوافع الجهوية وأن تبقى هذه الدوافع والمشاعر مستحكمة إلى هذا الحد بسلوك ومزاج رئيس يُفترض أنه تحمل أمانة المسؤولية وقيادة الدولة.
الأمر لا يقتصر على الرئيس فهناك مسؤولون جنوبيون يشاطرونه الشعور ذاته الذي تكون عبر عقود وغذته الدعاية السوداء لأجهزة صالح مصحوبة بالمال السياسي القذر، والذي أبقى تعز وأهلها هدفا عدائيا لهم وللعقيدة الأمنية لهذه الأجهزة، بالإضافة إلى محاولة تشويه الدور الوطني للسياسيين المنحدرين من تعز والذين تقلدوا مناصب رئيسية في دولة اليمن الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية).
صوتت تعز بالإجماع لصالح هادي في 21 شباط/ فبراري 2012، في سياق موقف وطني تشاركه أبناء تعز في لحظة الإحساس بالظفر، وبدافع عزيمة في الخلاص من تركة المخلوع صالح الثقيلة.
صَعَدَ هادي رئيسا ولكن مثقلا بالأحقاد التي أثبت التاريخ أنها عبثية، وهادي ضمن عشرات من القادة الجنوبيين يتحملون جميعا المسؤولية السياسية والأخلاقية عن الذي يجري في تعز تحت أنظارهم.
إن الخذلان القاتل الذي تتعرض له تعز يجب أن يدفع أبناءها جميعا إلى بدء مرحلة جديدة من النضال، فتعز أكثر ما تكون حاجة إلى وحدة أبنائها وإلى اليقظة تجاه المشاريع التفكيكية التي تجعلهم موزعين بين تيارات متصارعة، ضمن مخطط يريد أن يربك أو يعطل مفعول هذه الكتلة السكانية الضخمة والواعية.
لا يجب أن ينصب التفكير فقط على تحرير محيط مدينة تعز وبقية مديريات المحافظة من المليشيا المجرمة، بل تحريرها من المشاريع السياسية التي تجزئ أبناءها، أو تجعلهم محسوبين على فصيل سياسي بعينه.
فتعز هي من بين أكثر المحافظات التي تواجه الانقلابيين، دفعا لثمن الهوية الصارخة لمقاومتها، باعتبارها مقاومة "إصلاحية"، ولكي نبدد هذا التنميط الخبيث للمقاومة في تعز، على أبنائها أن ينخرطوا في إطار طيف واسع من المقاومين وأن يتوحدوا حول هدف تحرير المحافظة، وزيادة فرصها في التأثير السياسي على مصير البلاد.
تحتاج تعز إلى أن تتكامل فيها القوى الفاعلة: أحزابا ومقاومة ورأس مال في إطار مشروع سياسي واقتصادي وثقافي واضح، يتم من خلاله استنهاض الإمكانيات الهائلة لهذه المحافظة، وجعلها جاهزة للتعاطي مع مشروع الدولة من منطلق قوي وتأسيسا على قدرة حقيقة في التأثير.
هناك نماذج رائعة للابتكار والإبداع والنضال تشهدها تعز حاليا، في ظل ظروف بالغة السوء، وفي ظل هذه المؤامرة التي تتعرض لها من معظم الأطراف.
فرغم القصف والحصار هناك نجاح كبير يتحقق في محافظة تعز وفي حاضرتها التي تحمل نفس الاسم، على صعيد الترتيبات الأمنية والخدمية، على هذه المشاريع أن تستمر ولكن في إطار رؤية شاملة وتخطيط مدروس وتكامل حقيقي بين القوى الفاعلة في هذه المحافظة.
لا يجب أن تبقى تعز ورقة بيد أحد، سواء أولئك الذين يريدون التمسك بالهوية الجغرافية لليمن الشمالي بأي ثمن، أو أولئك الذين يريدون إبقائها جرحا نازفا فقط ومجرد شاهد على جرائم خطيرة ضد الإنسانية، لكي يتوفر لهم مجالٌ للمقارنة بين التحالف والانقلابيين، في المعركة السياسية والإعلامية والقانونية، التي يخوضها التحالف ضدا على الدعاية الكثيفة لمراكز التأثير في الغرب، التي تشيطن دوره وتدين تدخله العسكري في اليمن.
*عربي21