في اليمن وكنتيجة من واقع الأحداث التي مرت بها البلاد في العقد الأخير يصعب الحديث عن شخصية وطنية وعلمية جامعة تحظى باحترام وتأييد الجميع لمواقفها، بل وتصبح جميع المواقف والآراء عنها مصدر اتفاق وتأييد جمعي، باستثناء القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني رحمه الله.
القاضي محمد بن إسماعيل العمراني كما عرفته اليمن يعد أحد هذه الوجوه والشخصيات الفريدة والمتفردة التي كسبت به اليمن ومن خلاله الكثير.
في مسيرته العلمية والفقهية برز العمراني كعالم مجدد نابذاً التقليد، وناقداً مصادر التراث الإسلامي، ومتحريّاً التحرر التام من التقليد إلى أي مذهب من المذاهب الفقهية، أو التعصب لرأي أي مذهب من المذاهب، وإنما تقيده وتعصبه وتحريه هو للدليل الصحيح الصريح في دلالته على الحكم المستدل به عليه من القرآن الكريم أو السنة النبوية، وبهذا المنهج الرشيد في الاستدلال صارت آراء فضيلة الشيخ محل قبول من الجميع، باستثناء أهل الزيغ.
لم يكن تلقيه للأحكام الفقيه تلقي المتمذهب الصريح، فكان ناقدا للآراء الفقيهة ملزما تقييدها بما جاء من أقوال الفقهاء بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الصحيحة، وانتقد القاضي العمراني وجود علماء متمذهبين ينفصلون في غايتهم عن مبادئ الإسلام "فالدين عند الله الإسلام". من هذه القاعدة القرآنية خط العمراني مسيرته العلمية، دون أن يكون رديفا أو ممثلا لأي مذهب.
لقد أدرك العمراني الآثار المترتبة على التمذهب في الفقه والسياسات الإسلامية الداعية إليه، معتبرا أن العصبيات المذهبية تولد حالة عداء شديدة بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، وأصبح المتمذهبون بمذهب معين يعتقدون ويشيعون في طلابهم وأتباعهم أن الحق والصواب محصوران في مذهبهم وأن الباطل في المذاهب الأخرى.
كما وقف القاضي العمراني موقفا متشددا تجاه العنصرية والاتجاهات السلالية، فعاش داعيا لوحدة الصف الوطني وإزالة الفوارق الاجتماعية، وله العديد من الفتاوى بهذا الخصوص. ويتحدث مرافقو الفقيد في ساعاته الأخيرة قبل أن يلقى بارئه أن آخر وصاياه كانت تحظ اليمنيين على الوحدة ونبذ الخصومات الحزبية والتعصب لها.
تمكن القاضي العمراني من خلال مكانته الدينية كعالم ورجل دين، إضافة إلى اشتغاله في القضاء لسنوات، من فرض حضوره بين مختلف فئات الشعب وحكامه على حدا سواء، فكان قريبا من رجال السلطة والحكم، مثلما كان قريبا من عامة الشعب، فلم تجُره انقلاب الأحوال السياسية في اليمن إلى التحيز تجاه حزب بعينه أو حكومة بعينها، فكان له رأيه وموقفه الخاص تجاه مجمل ما مرت به اليمن من أحداث.
لقد انتهج العمراني مبدأ التوازن الرابط بينه وبين مختلف القوى والتيارات الدينية والسياسية دون أن يتأثر بتجاذباتها، بل كان له موقفه التوفيقي الساعي إلى التوافق والتغلب على مكامن الاختلاف بينها، وكان له نظرته الخاصة التي أهلته إلى أن يكون بحق العالم والقاضي والفقيه الذي تشكل موقفه ورأيه وفق ما يراه ويقتنع به، ناقدا الاختلالات المرافقة لسياسة الجماعة الحوثية وتأثيرها على الأوضاع في اليمن، وهذا الأمر ما وضعه في مواجهة فكرية دائمة أمامهم، وهو ما استدعى محاولات عزله وتهديده بإحراق مكتبته، وجره بالترهيب والترغيب لكي كون صوتا من أصواتهم وأداة من أدواتهم الضاربة في وحدة وسلامة وأمن البلاد وعقيدته.
تصدر القاضي العمراني لمهمة الإفتاء في سن مبكرة، وقد كان محل ثقة لدى المجتمع بمختلف فئاته وشرائحه منذ بزغ نجمه بين العلماء. وتكاد الفتوى في الجمهورية اليمنية أن تكون مقصورة عليه، وقد تميزت فتاواه على فتاوى غيره من المفتين بالاستقلالية عن التقيد بمذهب معين فكان يفتي في المسألة مبيناً أقوال أهل العلم فيها موضحاً ترجيحه من بين الأقوال دون تعصب لمذهب، وهذا المنهج في الفتوى جعل فتاواه محل احترام من الجميع.
كما كان لنزاهته أثناء عمله في القضاء أثر بارز في شخصيته الاجتهادية وقدراته الاستنباطية، وإدراك الأحكام الصريحة التي عززت من مكانته كقاض للمظالم. ولم يمنعه انشغاله في القضاء على عقد حلقاته العلمية ودروسه اليومية في جامع الفليحي، ومن ثم الزبيري، إضافة إلى أعماله الأخرى ومنها التدريس في جامعة صنعاء وجامعة الإيمان للفقه والعلوم الشرعية.
لقد تمكن القاضي العمراني من أن يعكس صورة مغايره عما تسرب إلى أذهان الناس من المكانة الزائفة التي تسلق من خلالها أدعياء العلوم الدينية والمنتسبون إليها، فتمكن بحضوره كعالم يستحق مكانته من أن يعيد مكانة العلم والعلماء إلى مقامها الطبيعي، هذه المكانة التي أهلته ان يكون أبرز رجالات العلم والقضاء في تاريخ اليمن الإسلامي والمعاصر. كما هو الحال مع الإمام محمد بن علي الشوكاني وابن الوزير والجلال والمقبلي، وغيرهم من المجددين في تاريخ الفقه الإسلامي في اليمن.
انشغل القاضي العمراني بقضاء يومياته مرتبطا مع طلابه بمهمة التدريس، والالتقاء بمن يقصده من عامة الناس وخاصتهم للإفتاء، وهذا السبب في كونه قليل الكتابة والتدوين لمجمل فتاواه وآرائه، وهو على الرغم من ذلك كان لا يعترف متواضعا بكونه عالما فيقول "أنا لست عالما إلى الحد الذي تنشر لي كتب ومؤلفات، أنا رجل عادي ولا يوجد لدي مؤلفات لأني لست بعالم، بل هناك بعض الرسائل والمباحث موجودة في يد طلبة العلم لا ترقى للنشر، وأعتقد أن التدريس أفضل وقد شغلت وقتي فيه".
وهو بهذا يكون شأنه شأن الكثير من عظماء اليمن وعلمائها الذين لم يأخذوا مكانتهم خارج بلدهم نتيجة لقلة نتاجهم المكتوب، إلا ان فضيلته كتب الكثير من البحوث والرسائل التي لا يزال أغلبها مخطوطا ولم يطبع حتى الآن، بسبب تواضعه وإخلاصه لعلمه بعيدا عن الشهرة التي كان ينبذها.
وكان القاضي العمراني ينفي عن نفسه صفة الاجتهاد قائلا "أنا لا أستطيع أن أسمي نفسي مجتهدا لأنها كبيره علي، وإنما أقول أنا مستقل ولم أدعِ أنني صرت مجتهدا، بل مستقلا ومختارا بعض ما يترجح عندي".
ويؤكد العمراني استقلاله الفقهي عن المذهب الزيدي (الهادوي كما يصفه باستمرار)، بل ويعتبر ذلك الاستقلال أمرا طبيعيا فهو باستقلاله ذاك لم يخالف المعهود من المواقف التي اشتهر بها كبار رجال العلم في اليمن ويقول في ذلك "إنني لست الوحيد الذي نشأ في بيئة زيدية واستقل عنها، فهناك القاضي العلامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، والعلامة محمد بن إسماعيل الأمير، والعامة محمد بن إبراهيم الوزير، والعلامة الحسن بن أحمد الجلال، والعلامة صالح المقبلي، وهؤلاء ظهروا في بيئة زيدية أيضا واستقلوا عنها".
عند مبدأ الاستقلال والنقد والدراسة الواعية وقف قاضينا محمد بن إسماعيل العمراني باحثا ومحدثا لعلوم الدين داعيا إلى الاتفاق في الأصول والاجتماع حولها، وترك الخلاف حول الفروع، وبهذا النهج تمكن من أن يكون قريبا من جميع الأطياف والمذاهب الدينية، دون أن يحصر نفسه كأحد رموزها.
وصدر للقاضي العمراني العديد من الأبحاث والرسائل والفتاوي التي نشرت والتي لا زال الأغلب منها كما ذكرنا مخطوطا، ونتمنى أن تنشر من قبل أولاده النجباء والمعنيين بعلمه وفقهه ومواقفه العلمية، ومن تلك الأبحاث والكتابات نذكر:
1- كتاب الأوائل، ويحتوي على أكثر من 2400 أولية في التاريخ كتبها في شبابه أي ما بين 55- 60 سنة.
2- كتاب "نظام القضاء في الإسلام" مجموعة محاضرات كتبها أثناء تدريسه في معهد القضاء العالي عام 1983م.
3- نيل الأماني في فتاوي القاضي محمد بن إسماعيل العمراني صدر في ثلاثة أجزاء جمع وترتيب عبدالله قاسم ذيبان.
4- المؤلفات الكاملة للقاضي محمد بن إسماعيل العمراني (الكتاب الأول – المجموعة الحديثية والتاريخية، والكتاب الثاني: المجموعة الأدبية- جمع وتحقيق محمد عبدالرحمن غنيم).
5- كتاب "أبحاث فقهية بأدلة شرعية" مجموعة من الأبحاث كتبها وقام بتحقيقها وإخراجها تلميذه عبدالله زهرة، وسفيان محمد أبو زيد.
6- كتاب "مقالات القاضي العمراني" يحتوي على 43 مقالا جمعها ونشرها ابنه عبدالغني العمراني.
7- رسالة بعنوان "الزيدية في اليمن" مطبوعة على شكل كتيب إصدار مكتبة دار التراث صنعاء 1990م.
8- كتاب "خمسون مسالة عرضت على العمراني في جامع الزبيري" جمعها تلميذه جبران بن سالم سحاري وصدرت عن دار زدني بالمملكة العربية السعودية ونشرت عام 2012م.
وللقاضي العمراني ما يزيد عن 44 بحثا ورسالة مخطوطة لم تطبع بعد.
ونحن نطالع النزر القليل من مآثر وأثار القاضي محمد بن إسماعيل العمراني لا يسعنا إلا أن نقول له: شكر الله سيعك وغفر ذنبك عن كل رأي وقول قلته، وكل أثر تركته فينا، فقد كنت خير عالم وخير فقيه، وخير مصلح، فرحمة الله وسلامه ومغفرته عليك وعلى مقام العلم الذي دافعت به ونفعت به الإسلام والمسلمين.
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.