تنشط جماعات العنف والإرهاب في الفراغ، الفراغ الفكري والسياسي والاجتماعي الذي تتركه الدول والنخب، وتجد نفسها في هذه الفجوة، وتستمد منها البقاء وضمان الإستمرارية، وهكذا هي جماعة الحوثي، الذي لولا العنف المسلح لما استطاعت البقاء في الضوء والواجهة لساعات وليس لأيام، فضلا عن أنها تسيطر وتتحكم، لذلك تراهن هذه الجماعة على الإنفلات القيمي وغياب الدولة واستمرار الإنقسام والتشظي، وهو أهم ما يبقيها على قيد الحياة.
جماعة الحوثي حركة مؤدلجة لا خطوط حمرا لديها سوى عبدالملك الحوثي، ولا يوجد ما هو أرخص من الدم والقتل والتعذيب في نهجها، ولا أسهل من عدم الإلتزام بالدين كفكرة، تنظيم يرى منطق عبدالملك أشبه بمنطق الآلهة، ويحاول صهر الجميع تحت صوته، ولا يعيش فردا داخلها إذا ما كان تابعًا للسيد، هذا ما تسعى لترسيخه في أذهان الأتباع، قطيع لا يقدس شيء ولا يضبطه شيء ولا يردعه أي شيء، سوى المحددات التي يحددها الكاهن الفرد، وهذه هي منهجية الحركة التي تسعى لتثبيتها في المجتمع.
بنظرة فاحصة وقريبة من هذه الجماعة، جماعة الحوثي، سنجد أنها واقعيا وفعليا نقيضة لكل الأفكار الدينية، وهي أقرب ما تكون لفكرة الإلحاد واللا دين، ولذلك تستخدم الدين مجرد شعار وحسب، بداخل هذا المجتمع تجد ضالتها، المجتمع الذي لا تقيده مبادىء ولا تحركه قيم ولا يضبطه زين، تستند الجماعة على وثيقة فكرية تربط الحكم بشخص عبدالملك باعتبار الحكم له حق من الله حصري به، والناس ملزمون باتباعه وتنفيذ أوامره، وثيقة تصنف المجتمع وتقسمه، وعكس هذه الوثيقة معناه مجتمع بفكر معتدل وتدين وسطي، وهذا ما تخشاه أي جماعة تنتهج العنف وسيلة للبقاء.
يراهن عبد الملك الحوثي على المجتمع المضطرب، الذي لا تصونه دولة ولا يردعه قانون ولا يضبطه تدين ولا أخلاق، مجتمع شعاراتي، لا يوجد عنده مانع من أن يقرأ القرآن بمصحف تمت سرقته، ولا يمانع من أن يصرف الملايين التي نهبها من بطون الجوعى ورواتب الموظفين من أجل أن يحتفل بذكرى المولد النبوي، هذا المجتمع الذي يفعل عكس ما يقول وتناقض أفعاله أقواله، ويرفع الدين كسيف على رقاب الناس، وفي أفضل الأحوال يستخدمه من أجل جلب المقاتلين للذهاب بهم للمحرقة والموت الجماعي، مجتمع معيب، وهذا هو المجتمع الذي يريده الحوثي، مجتمع بلا محتوى وفارغ من كل شيء، ليسهل تعبئته بكل شيء.
يبتكر الحوثيون كل يوم أعيادًا ومناسبات دينية، يستخدمون فيها القرآن والنبي، النبي النسب الذي يتعاملون معه كما لو أنه أحد المشرفين، يرفعون اللافتات وينبشون المآثر والأقوال، يزيّنون الشوارع والمباني في سبيل إقناعك أنهم يحتفلون بمولد النبي، وبعيدا عن المانشيت الدنيء الذي وصف صنعاء بعاصمة النبي، هذا الضجيج وكثرة المناسبات هي وسائل جذب تستخدمها جماعة الحوثي تهدف من وراءها لاستقطاب مقاتلين جدد واستعطاف آخرين وزيادة نماء أرصدة الذوات السلالية، إذ لا شيء يمكن استنتاجه من هكذا مناسبات سوى هذا، وإلا فبقليل من التفكير والعقل ستجد أن هذه الحركة لم تبق عيبا لم ترتكبه ولا جريمة لم تنفذها ولا دما إلا وأرقته، حتى الخبز نهبته من بطون الجوعى وأسر الموظفين، فكيف يستقيم الحال أحد يحتفل بذكرى النبي بينما هو بنفس الوقت يحتفل فيه فوق أرض حرام ومأكله وملبسه مدنس؟
هذه المناسبات الدينية والإرتماء والتعلق بالدين، والإدعاء القرآني، كل هذا مجرد وسائل تسويقية تريد جماعة الحوثي أن تستفيد من المجتمع الهش والعاطفي، لا تريد أن تخرج عن هذا الإجماع، وهي مضطرة لأن ترفع كل هذه الشعارات كوسائل تعود عليها بالنفع، النفع العسكري باستقطاب مقاتلين جدد ورفد الجبهات بهم، والإقتصادي بنهب ما تبقى لدى الناس تحت لافتة التبرع والمجهود الحربي، والسياسي ضمان استمرارية وتحكم وسيطرة، لكنها فعليا لا تمت لكل هذه الإدعاءات بصلة، وهي في سعي حثيث لصناعة مجتمع لا ديني ولا قيمي، مجتمع يتم تعبئته بكل المتناقضات والعجائب.
وإن كان هناك من فكرة عامة يمكن استنتاجها من أفعال الحوثي، فهو أننا أمام أسوأ نسخة لجماعة يزداد توغل التيار المتطرف فيها أكثر وأكثر، إنها أسوأ نسخ الإلحاد واللا دين، جماعة لا تمانع من أن تستخدم كل الوسائل بلا استثناء في سبيل تمرير أهداف تمنح عبدالملك الحوثي القبول والرضى لدى الحاكم الفعلي المتمثل بالحرس الثوري، فلا هي تريد الدين ولا الإلحاد ولا اللادين، تريد هذه الفوضى الخلاقة والإنفلات الجماعي والعبث المنظم، تتغذى عليه وتنتشي به، الشر يملأ عينيها والسوء فيها يتجلى على شكل جرائم مثنى وثلاث ورباع.
تستثمر الجماعة في سلوكها كل شيء حتى الجريمة، تستثمر المناسبات الدينية لدغدغة مشاعر الناس وتوحيد صفها أكثر وبث الخوف والرعب في أذهان الناس بكونها جماعة دينية تحافظ على الدين وتنتصر للنبي تارة، وتارة أخرى كونها جماعة مستهدفة، وهو ما يحقق لها تلاحم شعبي ويساعدها في تسويق أوهامها أمام الناس وتقديم أنفسهم كأبطال ومشاريع شهادة في سبيل الوطن، الوطن الذي نمت فيه كروش وأرصدة السلالة والمشرفين وامتلات فيه المقابر والسجون وعاد فيه الشعب لحياة القطرنة وتقبيل الركب.