ما حاق بالدولة السعودية هذا الشهر من إعصار سياسي وجنائي، يكاد يجتث الدولة السعودية ويفتتها إلى جزيئات يصعب إعادة تركيبها أو ترقيعها كما يحلو للبعض قوله، في إيماني بالله، بأن ذلك الإعصار والليالي حالكة السواد التي حلت بالحكم في الرياض، كان نتيجة لدعوة مظلومين تزدحم بهم سجون الرياض والمدن السعودية الأخرى، من علماء الدين والكتّاب وأصحاب الرأي وصفوة المجتمع السعودي من رجال الأعمال، وكذلك نخبة مُنعوا من السفر لآجال طويلة.
جاء مقتل الصحفي المرموق جمال خاشقجي في داخل القنصلية السعودية في تركيا، والتمثيل بجثمانه في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لم يكن إلا بأمر من أحد أركان هرم السلطة العليا في الرياض، وهنا وقعت الواقعة ولا سبيل لتفادي آثارها، إلا بالإطاحة برؤوس كبيرة من أجل بقاء الدولة.
خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الملأ عبر شاشات التلفزة العالمية، وكان الخلق يتوقعون مشاهد لجثمان الشهيد خاشقجي مُقطّعا إربا إربا، أو على الأقل جسد بلا رأس ولا كفين، كان الخلق يتوقعون من الرئيس أردوغان أن يعرض على الناس جميعا تسجيلات صوتية لفريق الجريمة مع مركز صناعة القرار في الرياض وعواصم خليجية وعربية على حد سواء، كان الخلق يتوقعون الكثير عن ما حدث لجمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، لكن الرئيس التركي أردوغان ذكر في خطابه مواقف سياسية أشاد فيها بالملك سلمان وتجاهل ذكر ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وأصدر اتهاما مبطنا لقيادات عليا في هرم العائلة الحاكمة دون تسميتها، وطالب بتسليم المتهمين للسلطات التركية لمحاكمتهم في مسرح الجريمة الشنعاء، وطالب بتحقيق دولي نزيه بعيدا عن أطراف مرتكبي الجريمة، ويعني ذلك تدويل مقتل خاشقجي ليكون العالم شاهدا على ما فعل بعض أركان الدولة السعودية، ويكون القرار عالميا ضد مملكة ابن سعود.
لقد أبقى الرئيس التركي كل (الكروت) بيده يلعب بها كيف وما شاء ومتى ما شاء، سلم معلومات للإدارة الأمريكية عن سير الأحداث لمقتل خاشقجي وشخوص الجريمة، وراح المجتمع الدولي متضامنا مع مطالب الرئيس التركي من الدولة السعودية وعليها أن تجيب على التساؤلات التركية التي أعلنها أردوغان، أن تركيا تسعى لتحقيق مصالحها مع المجتمع الدولي، بما في ذلك مع السعودية، لكن لن يكون ذلك على حساب سيادة وكبرياء الجمهورية التركية.
يعترض البعض على استقبال الرئيس أردوغان يوم الأربعاء مكالمة هاتفية من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المتهم بالتآمر على الاقتصاد التركي ومحاولة الانقلاب ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، وأخيرا الإقدام أو الإشراف أو التوجيه بتصفية الصحفي جمال خاشقجي على أراضي الجمهورية التركية. لكن الرئيس التركي يتعامل مع الآخرين كرئيس دولة لا كخصم، خلافه مع ألمانيا بلغ ذروته، وكذلك مع روسيا والإدارة الأمريكية، ولكنه لم يقطع الصلة بأحد، وفي الشأن السعودي ترك الأمر للقضاء والنائب العام وأجهزة الأمن للتحقيق في نهاية خاشقجي.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شكلت له مسألة قتل الصحفي جمال خاشقجي قلقا، فهو على مقربة من موعد الانتخابات التكميلية البرلمانية في الربع الأول من شهر تشرين الثاني/نوفمبر القادم، وعليه ضغوط من الكونجرس والرأي العام؛ لكي يتخذ إجراءات عقابية على النظام السياسي في الرياض؛ لما فعلوه مع الصحفي جمال خاشقجي كاتب جريدة الواشنطن بوست، يقول إنه لا يمكن أن يضحي بالعلاقة مع السعودية التي أصبحت الممول للاقتصاد الأمريكي بما يزيد عن 500 مليار دولار والحبل على الجرار في أقل من سنتين، وأن السعودية قدمت مساعدات مهمة لإسرائيل، لكنه في الوقت نفسه قال: «لقد خان السعوديون ثقتي وجعلوني أظهر بمظهر سيئ»،
وقال أيضا إن الحكومة السعودية حاولت التستر على قتل خاشقجي، وهي «أسوأ عملية تستر على الإطلاق»، والحق أن مقتل خاشقجي ليس أمرا مهما بالنسبة للرئيس ترامب، وإنما المهم هو المزيد من ابتزاز الدولة السعودية لدفع أموال طائلة، مستغلا هذه العملية الشنيعة. وفي تقدير الكاتب أن إدارة ترامب واللوبي الصهيوني سيحدون أي إجراءات جوهرية تتخذها إدارة ترامب ضد الدولة السعودية، ولكنهم سيتخذون جرعة من الإجراءات ضد أفراد غير مؤثرين في العملية السياسية السعودية، وذلك لإسكات الرأي العالم الأمريكي وامتصاص غضب الرأي العام العالمي.
الملك سلمان آل سعود، لا شك أنه في موقف لا يُحسد عليه، فهل يُقدِم على عزل ولي عهده ابنه الأمير محمد وتعيين أحد إخوانه، والمرشح لذلك المنصب ابن الملك سلمان السفير المعتمد في واشنطن، لكن تحوم حوله الشبهات أيضا في مأساة تصفية جمال خاشقجي، وأعتقد أن الأمريكان على اطلاع بذلك.
كل العمليات الجارية اليوم في الرياض من إعادة تنظيم إدارة المخابرات والأجهزة الأمنية إلى اعتقال عدد من المتهمين وعزل بعض كبار الموظفين المتهمين بضلوعهم في هذه العملية النكراء، عمليات غير مجدية ولا بد من إجراءات جوهرية تتعلق بإعادة هيكلة هرم السلطة السعودية.
لا جدال في أن الإدارة السعودية الراهنة أثبتت فشلها على كل الصعد داخليا وخارجيا، فأصحاب الرأي والعقل والحكمة ورجال الفكر الديني الوسطي ودعاة الإصلاح كلهم في السجون، وكبار رجال الأعمال تم التطاول عليهم وعلى أملاكهم واعتقال بعضهم تحت ذريعة محاربة الفساد، في المجال الخارجي، العلاقات مع الدول المؤثرة في السياسة الدولية علاقات مضطربة، والعداء للنظام السعودي في الخارج يتزايد، والابتزاز وسيلته تتصاعد ولو دفعت كل محتويات الصناديق السيادية والاستثمارات الخارجية والثروة الوطنية لاسترضاء الرأي العام الغربي، فلن يتحقق ذلك الاسترضاء بسهولة، بل ستزيد وسائل الابتزاز.
السؤال، كيف الخروج من المأزق الراهن للحفاظ على النظام الملكي القائم؟ الرأي عندي، يجب الانصياع لوصية الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله، وهي أن المُلْكَ يتداوله أبناؤه من بعده واحدا تلو الآخر، الانتقال من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية، وتشكيل مجلس وزراء يكون مسؤولا أمام الملك، والإعداد لمجلس شورى (برلمان) منتخب هو السلطة التشريعية ومجلس قضاء مستقل، الحفاظ على المال العام ولا يكون وسيلة لاسترضاء الدول الباغية علينا. ليس عيبا ولا ضعفا التضحية ببعض القيادات وإخراجها من السلطة؛ من أجل بقاء الدولة، وامتصاص الغضب الشعبي والعالمي، ومن هنا يجري إطلاق سراح جميع المعتقلين أصحاب الرأي وقادة الفكر الديني الوسطي الإصلاحي، وإطلاق حرية الرأي وحق المشاركة السياسية.
آخر القول:
تكمن قوة الدولة في قوة الجبهة الداخلية وتماسكها، والانسجام مع المحيط الجغرافي المجاور دون تعال أو استكبار أو بغي. وقوة الجبهة الداخلية تكون إذا ساد العدل وحُرِّمَ الظلمُ والاستبدادُ، وأشرِكَ المواطن في مسيرة الحياة السياسية والاقتصادية. والأمر يومئذ لله عز وجل.
عن صحيفة الشرق القطرية