مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة عالم مثير، غريب، مدهش، مضحك، مبك، يبعث على البسمة والعبوس في آن. تنعدم فيه الحدود بين الكاتب والقارئ، بين النقد والتجريح، بين العامية والفصحى، الكل يقرأ ليكتب، والكل يكتب ليقرأ، يقرأ ما يشاء، ويكتب ما يشاء، وكيفما يشاء، وقتما يشاء، وبأي وسيط لغوي أو بصري شاء. عالم من التناقضات، تقرأ فيه نصاً محلقاً، أو تحليلاً معمقاً، وتقرأ لأحدهم يكتب ساخراً «انتظروني رايح الحمام وراجع».
إنه عالم من السحر والفتنة، الحرية والفوضى، الثورة والغضب، الحب والكراهية، الخصومة والعتاب، الموت والحياة، والتواصل والقطيعة، التواصل الذي جعل العالم منزلاً عائلياً، والقطيعة التي جعلت أفراد العائلة ينسحبون من جو الغرفة الواحدة إلى غرف افتراضية في قارات بعيدة. عالم من النقد البناء والتجريح الشخصي، عالم افتراضي لكنه صورة لعالم الواقع، فيه صخب كوني رهيب يجلجل على صفحات صماء، في غرفة فارغة إلا من «طرقعات» الكيبورد. هذه الثنائيات الضدية التي لا تنتهي هي سمة عالم «فيسبوك وتويتر وأنستغرام وواتساب وسنابشات»، وغيرها من التطبيقات التي نحملها معنا في القطارات والحدائق العامة والشوارع وصالونات الجلوس وغرف النوم، منسحبين معها تماماً إلى عوالم أخرى.
انتهت في هذه العوالم الوصاية الأبوية للكاتب، وانتهى الاتجاه الأحادي القائم على «الإرسال والتلقي»، ليصبح لدينا قارئ يكتب ويناقش ويتفوق في أحيان كثيرة على كاتبه، ويصبح لدينا طريق «مترو- واي» ضخم مكون من عدد من المسارات التي تنداح فيها حركة الأفكار جيئة وذهابا بين الكاتب والقارئ بشكل مثير. ومع هذا الكم الضخم من الحركة سقطت «قداسة الكاتب» الذي تحول بشكل أو بآخر إلى قارئ، في مقابل القارئ الذي تحول إلى كاتب، ليسود جو من الحوار الذي يكون أحياناً فوضوياً، لكنه يتيح جواً من الشعور بالتكافؤ بين مجموعة من الأشخاص الذين تنعدم بينهم حدود الكتابة والقراءة، وهذا شرط مهم لوجود بيئة ديمقراطية يتدرب فيها المشاركون على تقبل الآراء المختلفة، مع إعطاء القارئ شحنة عالية تمكنه من الرد على الكاتب وشتمه أحياناً، وتمكن الكاتب من طاقة إيجابية تجعله يتقبل النقد والتجريح، بل وتمكنه من الرد على القارئ وشتمه وتجريحه في أحيان كثيرة.
ومع وجود هذه الوسائط قلّت نسبة اعتماد أطراف العملية الإبداعية على الوسائط التقليدية مثل الكتاب والصحف والمجلات الورقية، وعانت الكثير من دور النشر ومن مؤسسات الصحافة في العالم، واضطرت الكثير من الصحف إلى تقليص نفقاتها والتخلص من نسختها الورقية، خاصة مع وجود وسائط إلكترونية تمكننا من حمل مكتبات كبرى تنحشر داخل لوح رقمي صغير ندسه في حقيبة الكتف.
أما الأفكار التي قال عنها الجاحظ قديماً إنها «ملقاة على قارعة الطريق»، فقد أصبح لها مكان الصدارة في صالونات الفيسبوك وتويتر، وحتى تلك التي مر عليها أبو عثمان، دون أن يلتفت إليها أخذت موقعها من صدارة مجالس الواتساب وأطلت علينا أنيقة من شاشات اليوتيوب. الحرية اللامحدودة هي سمة هذا الفضاء الإلكتروني، هذه الحرية اللامحدودة على مواقع التواصل دفعت الكثير من الدول إلى مطالبة إدارات هذه المواقع بإيجاد ضوابط معينة لاستعمالها، عدا عن أن دولاً بعينها تقوم بين الفترة والأخرى بحظر مثل تلك الوسائط، وسن قوانين لمعاقبة من يستعملها لخدمة أجندات متطرفة أو للتسويق لجرائم الكراهية والدعوة إلى العنف، أو حتى لممارسة الحق الديمقراطي في نقد الأنظمة.
وكما كسرت تلك الوسائط الحدود بين الكاتب والقارئ، فإنها سعت كذلك لتضييق الهوة بين اللغة الفصحى واللهجات العامية، حيث زحف على تلك المواقع كم مهول من اللهجات التي غدت تسخر من الفصحى وتزاحمها على تلك الصفحات، لدرجة أن الكثير من كتاب الفصحى يلجأون إلى العامية للتقرب من القارئ، ولإضفاء جو من الظرف والطرافة على كتاباتهم.
وكما أتيحت الفرصة للعامية لتجاور الفصحى، فإن هذه المواقع أتاحت كذلك حرية التجريح الشخصي مقابل النقد الموضوعي، حيث أصبحت هذه المواقع أحياناً متنفساً لحالات القهر اليومي والكبت المزمن الذي تعيشه ملايين تعاني من شظف العيش وتسلط الأنظمة، وضياع الرؤية وتكسر الأحلام. وقد انفتحت هذه الصفحات على مقادير فلكية من الشتم والسب والتجريح، التي يعبر الكثير من مرتاديها عن حالة غضب شامل، قد لا يكون بسبب النص المكتوب، ولكن بسبب الظرف المحايث والجو العام. كل تلك الظواهر في الفضاء الرقمي ليست خاصة بمواقع التواصل الاجتماعي في البلاد العربية، ولكنها حالة عامة، عابرة للجغرافيا، وهي سمة من سمات عصرنا الحاضر الذي يتسم بكثير من التقلبات السياسية والاقتصادية، والتحولات الاجتماعية والثقافية. فالسجال الموجود على تلك الصفحات عابر للغات، حيث نجد الأفكار المتداولة على تلك الوسائط تكرر نفسها في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا وشرق آسيا، ولكن بأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة.
وإطلالة على الكتابات التي تناولت ظاهرة «مواقع التواصل» بين الإسرائيليين مثلاً، تجعل المتابع يقف مندهشاً إزاء صراع اليهود الأصوليين مع العلمانيين، والصراع الطائفي اليهودي والصراع الأشكنازي السفرديمي، ناهيك عن حالات الإسلاموفوبيا والكراهية للعرب، وعدا عن جبال من المواد التي تشتم الفلسطينيين الذين يجب طردهم من «أرض الميعاد»، والمسلمين شرابي دماء اليهود، والعرب الأغيار الهمج، الذين شاء قدر إسرائيل المتحضرة أن يلقي بها بينهم. كما أن مواقع التواصل ليست مكاناً مخصصاً للكتاب، ولكنها منتدى للكاتب والقارئ والسياسي والفنان والطبيب والقانوني وغيرهم ممن ينتمون إلى الشرائح الاجتماعية المختلفة. ولكل وسيلة من تلك الوسائط شروطها وطبيعتها، فالفيسبوك على سبيل المثال يتيح لك أن تكتب كماً كبيراً من المادة في النص أو «المنشور» الواحد، فيما تويتر يحدد لك عدد الكلمات في 140 كلمة. ولذا يفضل الكتاب المعروفون الفيسبوك على تويتر لأن طبيعة المادة التي يتناولونها كبيرة الحجم نسبياً، فيما أغلب رجال السياسة وجدوا في تويتر ضالتهم، لأنه في الوقت الذي يحب الكاتب «الثرثرة» إن جاز التعبير، فإن السياسي حريص على تقليل عدد الكلمات، الأمر الذي يفتح المجال واسعاً للتأويلات والتفاعل والردود، والشتم والسب وتنفيس حالات الاحتقان.
ومن أبرز مستخدمي تويتر على سبيل المثال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حتى لقد تمنى أمريكيون كثيرون لو تقيد أصابعه الضارة الممتدة على لوحة مفاتيح جهاز تلفونه الذكي، التي يخشى أن تمتد إلى ما هو أبعد من لوحة المفاتيح، إلى لوحة مفاتيح الزر النووي.
أخيراً: لعلنا نلمح العلاقة بين «المفسبك» الذي طلب منا أن ننتظره حتى «يخرج من الحمام»، ودونالد ترامب الذي قال مرة على تويتر في سياق الدعاية الانتخابية ضد منافسه على ترشيح الحزب الجمهوري تيد كروز: «زوجتي أجمل من زوجتك».
كثيرون تمنوا لو كانت روح ترامب مثل وجه زوجته، ولو كانت كتاباته أنيقة مثل بدلاته، لكنها الحياة تجود علينا بالسخرية والجنون والدهشة والتناقضات الكثيرة.