على كثرة ما يرى المرء في زماننا هذا من مشاهد تدمي الروح، وتعيد البشرية للوراء ثلاثــــين قرنا، وتسحق روحها، في البر والبحر والجو وما بينهما من مساحات غامضة.
على كثرة ما يرى من بطش وصمت وتواطؤ، ليس مع الشيطان وحده، بل مع كل وكلائه في الأرض.
على كثرة ما يرى، ويسمع ويحس، فإن مشهد وجود قوات أمنية، خلال هذه الأعياد المسيحية هذا الأسبوع، أمام أبواب الكنائس في الأردن، كان أمرا مبكيا حقا، وهي المرة الأولى التي أرى فيها جنودا أمام أبواب الله، بعد الجريمتين البشعتين اللتين ارتكبتا ضد كنيستين مصريتين.
لم تجد قوات الأمن الأردنية من وسيلة لحماية الصلاة إلا وجود هذا الانتشار الأمني الكثيف، وهي محقة في ذلك، وحين وصلت بيروت خلال الأعياد وجدت مشهد قوات الأمن أمام الكنائس يتكرر، إذ إن احتمالية قيام مجرم بتفجير نفسه، مهما كانت هذه الاحتمالية ضعيفة، ستكون كارثة حقيقية لو حدث وأن تسلل القتلة مرة أخرى إلى بيوت الله.
أكتب هذا، محييا ومهنئا كل أصدقائي المسيحيين ومعتذرا لهم، وهم كثر، وهم الرائعون الذين كانوا دائما لي أكثر من أخوة، وأكثر من أصدقاء، وأكثر من معلمين، ليس منذ اليوم، بل منذ أن عرفت معنى الصداقة، ومنذ أن عرفت معنى الكلام.
استحضر وجوه أصدقائي الذين أواصل معهم مسيرة الحياة والعمل من أجل أن يكون واقع البشرية أجمل، وأستحضر وجوه الغائبين الذين دفعوا أثمانا باهظة من أجل أن يكون لأوطاننا لون يشبه وجوه أطفالنا، وحلم طيب مثل قلوب أمهاتنا، وأستحضر وجوه من لم يبدلوا تبديلا، استحضر وجوه المخرج يوسف شاهين، نجيب نصار الذي اكتوى قلبه بحب فلسطين، فطورد وسجن وعانى الكثير.
استحضر وجه الحكيم والضمير جورج حبش، جبرا إبراهيم جبرا، إدوارد سعيد، إميل حبيبي، حنا أبو حنا الشاعر وأستاذ شعراء المقاومة، الشهيد والمفكر نعيم خضر، يعقوب زيادين المسيحي الأردني الذي فاز في انتخابات القدس ذات يوم كانت فيه الشمس تشرق بكامل بهائها، استحضر وجوه سميرة عزام، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، الكبيرة فيروز، وعائلتها، فليمون وهبي، أنطون سعادة، مي زيادة، بطرس البستاني، جوليا بطرس التي بُحّ صوتها وهي تغني: وين الملايين.. الشعب العربي وين؟ وديع الصافي وهو يغني: يا ابني بلادك قلبك اعطيها وغير فكرك ما بيغنيها/ إن ما حميتها يا ابني من الويلات ما في حدا غيرك بيحميها. أستحضر وجوه ميشيل عفلق، كوليت خوري، حنا مينة، وديع حداد، الشهيد كمال ناصر، إميل توما، عطا الله حنا، أمل مرقص، جوني منصور عاشق حيفا، ليلى الأطرش، فايز صيّاغ، أنيس الصايغ، إلياس خوري، جوزيف مسعد، أنطون شلحت، إلياس نصر الله، عبير عيسى، الثلاثي جبران، كميليا جبران وردة فرقة صابرين، الكبير الذي لن يغادرنا خليل السكاكيني، ميشيل خليفي، ومارسيل خليفة، نايف حواتمة، روكس بن زايد العزيزي، جميل عواد، جوليت عواد، ومئات سواهم، لا يتسع عشرون مقالا لاحتضان أسمائهم، ممن أضاءوا حياتنا بالفكر والنضال، والجمال، والأدب والفن والحرية.
هل هؤلاء هم الذي لا يكتمل هذا الجهاد المريض إلا إذا حصد أرواحهم كما حصد روح صاحب فيلم الرسالة، وعمر المختار، أفضل فيلمين أخرجهما عربي عن الإسلام والمقاومة.
من أين يأتي القتلة الذين لا هدف لهم سوى قتل أرواح خلق الله في بيوت الله، وهم يسبحون لله ويصلون لله، هؤلاء الذين يخرجون من جحور الجهل والتخلف ومن العمى المطلق، وغلاظة القلب والروح؛ هؤلاء الذين كلما ابتدعوا حزبا أو جماعة أو تيارا، باعتبارهم حماة الدين وحراس الفضيلة، انقلبوا على من هم مثلهم لأنهم أسسوا حزبا أو جماعة أو تيارا، ثم انقلب الاثنان على فريق ثالث ورابع، وهدف كل منهم احتكار الدين.
أي جهل سكن أدمغة وخواء قلوب هؤلاء ليظنوا أن الله لهم وحدهم، وأنهم الناطقون باسمه، هم من يشوهون الرحمة والإنسانية وقيم العدل والحوار بالتي هي أحسن، ويتحولون إلى مجرد منجل في يد الموت.
كانت مسيرة تكفير الشبيه، لشبيهه، هي الطريق الذي كان لا بد أن يعبروه ليكفروا أصحاب كل دين، وأصحاب كل فكر، وأصحاب كل ضمير، وكأنهم ولِدوا ليقتلوا، كما كان الجندي الأمريكي يكتب على خوذته وهو يحصد أرواح الأبرياء في فيتنام، وسواها، وصولا إلى بلادنا، وكالجنود الصهاينة الذي لم يجدوا شيئا يرثونه من القتلة قبلهم سوى هذه الجملة ليخطُّوها على خوذهم وجباههم.
عتاة العمى، الذين يطاردون الحياة ويسحقونها في كل مكان، ينبعون من قلب الهمجية والعنصرية والجهل الذي يدعي العلم كله، ولا يمتون للحياة وقيمها الكبرى التي اتفقت عليها البشرية ودفعت الكثير من أجل أن تكون العدالة قيمة، والحق في الحياة قيمة، وحرية الاختيار قيمة، والأديان قيمة، وحرية الفكر قيمة، والجمال قيمة، فهذه وسواها من القيم هي أساس الحضارات، أما هذا الدمار وزراعة الخوف، وحصد الأرواح فهي صنيع وحوش لا تعرف أي رحمة تلك التي تسكن قلب السماء.
وبعد:
جاء على لسان ظاهر العمر، في قناديل ملك الجليل:
أنا لا يعنيني ما تؤمن به، يعنيني ما الذي تفعله بهذا الإيمان: تبني أم تهدم، تظلم أم تعدل، تخلص أم تخون، تسلب أم تمنح، تحب أم تكره، تصدق أم تكذب، تحرر أم تستعبد، تزرع أم تقلع، تنشر الأمن أم تطلق وحش الخوف يلتهم قلوب الناس. والله لو وقف ببابي رجلان، رجل عادل من أي ملة أو دين، ومسلم ظالم، لأدخلت الأول قلبي وطردت الثاني.
*القدس العربي