عندما "هز" شداد زبيبة أنجبت عنترة، كان لقاء عربيا أفريقيا مذهلا، والدليل في النتيجة، والتي كانت فارسا قويا وعاشقا ولوعا، وشاعرا ملهما، ومتمردا على العادات اللعينة، وقاهرا لعنصرية النسب. ينظر الناس إلى قوته ولا يدركون أن تهجين البشر يأتي بالنجابة والفصاحة والقوة، وأهم من قوته عشقه لعبلة، فالعشق للفرسان لا للمتسكعين، وتضحية تأخذ من الجسد ضعف ما تأخذه من الوجدان، ولا يقدر عليه بخيل ولا جبان ولا وضيع الشأن.
والأهم من عشق عنترة شعره، والشعر ليس مجرد هذيان بلا بيان ولا وصف بلا خيال ، كما أنه ليس شعورا بلا سلوك وفعال، وهو قرين العشق في حميد الخصال، يقوله من يقدر على فعله، وهو مقرون بالسيف والرمح وامتطاء الحصان، علو الشأن اتصف به عنترة وشعره مبلغ حلمه وفعله، ولو كان وضيعا كما رأت عبس لسواد لونه لما قدر على القول والفعل معا. فالوضيع قد ينظم الشعر ويُركب الأبيات، لكنه يعجز عن الشعور وعن الفعل، ولذا اسمته العرب ناظما لا شاعرا، وشويعرا لتصغير شأنه.
وأنا أقرأ عنترة فعله وشعره أجدني أشكره على الصبر ثلاث ساعات قضيتها اليوم معه حاورته مليا، وأعدت فهم ما قرأته سابقا دون إدراك كنهه، وخاصة معلقته، والتي بدأها بسؤاله مستعرضا مستنكرا أن يكون الشعراء قبله قد تركوا شيئا من غزل إلا وطرقوا بابه. فقال هل غادر الشعراء من متردم؟ فالشعراء لم يتركوا شيئا من الغزل الا أتوه ولا مساما الا ونفذوا اليه، ومع ذلك يرى أنه قد أتى بغزل غير مسبوق.
والغريب أنه طلب من عبلة في القصيدة نفسها أن تسأل عنه رفاقه في المعركة بقوله كناية: هَلّا سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ إِن كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمي ، والخيول لا تُسأل وإنما يسأل فرسانها. سأل عبل وكأنها لا تعرفه وهي ابنة عمه مالكا، ويقال أنه هنا احتقرها بنسبها إلى أبيها الذي كان يتعامى عن فروسية ابن أخيه, ويحرض أباه ضده، كما لم يقبل به زوجا لعبله.
ومن المعروف أن من يحب لا يُحقر ولا يُقبح، لكن عنترة عدو العنصرية فعل، وربما ذلك للإنكار عليها كي لا تفكر بالطريقة التي يفكر بها والدها مالك. وفي صورة شعرية واستعارة مقصودة يصف لعبلة كيف قتل فارسا في المعركة فيقول: فَشَكَكتُ بِالرُمحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ، ولم يكن يقصد الثياب وحدها وانما قصد انه غرز رمحه في قلب الفارس، وهذا يوافق الاستعارة نفسها لامريء القيس الكندي الذي خاطب فاطمة: وَإنْ تــكُ قــد ســاءتــكِ مــني خَليقَـةٌ فـسُـلّـي ثـيـابـي مـن ثـيـابِـكِ تَـنْـسُــلِ، لم يكن يقصد الثياب البتة وإنما القلوب، فسلي قلبينا عنا.
وجاء القرآن بلغة العرب ذاتها عندما قال الله (وثيابك فطهر)، فلم يكن المقصود الثياب بل ما خلف الثياب داخل الجسد، وهو القلب الذي يجب أن يكون طاهرا وخاليا من الرجز والأوساخ لأداء العبادة. والأجمل من صور الشعر عند عنترة خياله، فهو في بيت أخر يحدثنا عن شكوى حصانه من كثرة الطعنات التي نالت منه، فيقول: "لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اِشتَكى وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي" ، فالحصان لا يتكلم، لكنه تخيله شاكيا دامع العينين، فبرغم قوته وصلابته وفروسيته وجلده في اقتلاع قلوب أعدائه برمحه، إلا أنه رقيق القلب لحصانه، وهو هنا في القصيدة والبيت يرسم أمامنا بانوراما متكاملة للمعركة، ولعشقه ولحواره مع حصانه في أنسنة راقية ، قبل أن تأتي أفلام الخيال والانميشن وتقنية الثري دي والسكس دي، كان عنترة قد صور الحوار والحديث بينه وبين الحيوان. لعنترة الخلود. فقد خلده شعره، ولو كان مدعيا للشعر أو شاعرا بلا شعور، لمات كما مات ناظمو الأبيات بلا شعور، وهم أحياء يتخطون الرقاب للوصول إلى الفتات والشهرة المزيفة.