حذر كثير من المفكرين الطلائعيين من خطورة التطرف الديني، الذي هو أبشع أنواع التطرف، وأكثر جرماً من التطرف القومي أو الوطني أو العرقي أو السلالي.
وما هو حاصل اليوم من تطرف يضرب العالم هو ضفيرة من الأصولية الدينية، والشوفينية القومية، والنازية العرقية، والانغلاق الوطني.
انهار الإنسان داخلنا، فعدنا عرباً وأوروبيين، سوداً وبيضاً، مسلمين وغير مسلمين، سنة وشيعة، كاثوليك وبروتستانت، إشكناز وسفرديم.
الهوية الإنسانية هي الهوية الجامعة، لأننا وإن اختلفت أعراقنا وأدياننا نظل بشراً رغم نتوءات الجغرافيا وجراحات التاريخ. ومع ذلك تنهار هذه الهوية الجامعة يوماً بعد يوم لصالح "الغيتوهات" و"الكانتونات" الدينية والعرقية.
اليوم، الأصوليات المخيفة تطل برأسها، كإحدى الأفاعي المذكور في كتب الأساطير القديمة، ولكنها هذه المرة أفعى حقيقية، تطل من أقصى نقطة على خارطة التراب الإسكندنافي، إلى أبعد قطرة ماء في "بالي".
اليمين المسيحي يقرع أبواب البيت الأبيض، وهذا اليمين هو الذي دمر العراق وأفغانستان، وسعَّر نار الإسلاموفوبيا، والتطرف الإسلامي يضرب بجنون في إسطنبول وباريس وبغداد وعدن، والحبل على الجرار.
ورؤية ابن لادن عن الفسطاطين تقترب، وصمويل هنتغتون يتغلب بشكل مثير على فرانسيس فوكوياما، والحضارات تقترب من لحظات الصراع، ودونالد ترامب ومارلين لوبان، وعمدة لندن السابق يتنفسون بارتياح، أرصدتهم السياسية تتصاعد، والفسطاطان يتمايزان.
الرؤية من ضفة البحر المتوسط الشمالية تبدو كالتالي: حضارة مسيحية – يهودية رائدة، مقابل إرهاب إسلامي يسعى لتدميرها. وتقابلها الرؤية من الضفة الجنوبية للبحر ذاته، تقول: هناك تحالف صليبي – يهودي يريد القضاء على الإسلام، وفي الصورة ريشتارد قلب الأسد يشحذ سيفه لتخليص "الديار المقدسة" من أيدي المسلمين الكفار، بموازاة إرهابيي "أنصار بيت المقدس" في سيناء الذين يقتلون "كفار الجيش المصري".
حتى الراهب البوذي الميانماري "ويراثو" يؤسس منظمة 969 "البوذية الإرهابية". أصبح لدينا –لحسن الحظ - "إرهاب بوذي" يطالب بحرق المسلمين "الروهينغا" في بورما.
يحدث الصراع عندما تحضر المصالح، لكن أهل الصراع لا يظهرونه على حقيقته التي هو عليها، كصراع مصالح، ولكنهم يعيدون إنتاجه في أثواب مختلفة أبرزها الثوب الديني.
الصواريخ عابرة القارات التي دكت حلب منطلقة من نقطة ما في روسيا، عمدتها الكنيسة الروسية باسم "السيد المسيح"، وباركها "رب المسيحيين"، و المجرم الذي دهس أكثر من ثمانين في مدينة "نيس" الفرنسية ينفذ وصايا السماء في قتل الكفار.
توني بلير وجورج بوش ودونالد ترامب والحاخام أسحاق عوفاديا وأيمن الظواهري والخليفة أبوبكر البغدادي وقاسم سليماني وحسن نصر الله، هم نماذج من الأنبياء الجدد، الذين أرسلهم "رب الجنود"، والذين لديهم تصوراتهم الدينية الكارثية للحياة والحضارة والخير والشر.
عشرات آلاف الضحايا لإرهاب المنظمات الإرهابية الإسلامية، وملايين الضحايا لإرهاب للدول الإرهابية المسيحية (وإن تسمحت بثوب العلمانية)، دون أن ننسى إرهاب الدولة الإسرائيلية، وعشرات الآلاف من ضحاياه.
كل هؤلاء الضحايا لا يتمايزون عندما يدخلون التراب. الله وحده هو الذي يعرف حجم آلامهم، وآلام أهاليهم من بعدهم، والله وحده شاهد على جرم كل أولائك الناطقين باسمه في الساحات الكبرى اليهودية والمسيحية والإسلامية وأخيراً البوذية.
رحم الله ضحايا الإرهاب من أي دين كانوا، والعار على الإرهابيين إلى أية ملة انتموا.
وإنا لله وإنا إليه راجعون