من يطالع وسائل الإعلام ـ والإعلام المسيس على وجه الخصوص ـ يلحظ أن مواطن الخلاف والاختلاف أكثر بكثير من مواطن الوفاق والاتفاق. داخل الإقليم الواحد يضرب التنافس المحموم بين دوله محاولات التنسيق والتقريب، وداخل البلد الواحد تختلف وتتصارع الأحزاب السياسية، وداخل الحزب الواحد تختلف وتتصارع مراكز القوى، وتجني السياسة على الدين، فتلقي بظلال خلافاتها عليه، فنجد الخلافات المذهبية تتحول بفعل السياسة إلى صراعات طائفية، وداخل المذهب الواحد تنتشر الفرق والجماعات المتصارعة، لتدعي كل جماعة تمثيل الدين بشكل حصري، ويستمر الخلاف بين سنة وشيعة، ثم داخل السنة يمتد الخلاف ليمزقهم إلى إخوان وسلفيين وصوفيين، والإخوان ممزقون والسلفيون جماعات، والصوفية لم تعد صوفية. وتستمر الخلافات التي تكاد تصل إلى كل بيت وأسرة بمؤثرات دينية وسياسية مختلفة.
إنه عصر الخلاف أو «الاختلاف السلبي» الذي يتم التركيز فيه على ما يفرق لا ما يجمع، وما يمزق لا ما يوحد، حتى أن من يدعو لوحدة الصف يواجه بالتشكيك في نواياه ودوافعه السياسية، وحتى أصبحت مفردة «الوحدة» لدى كثيرين ترمز للرغبة في الاستحواذ والسيطرة وإلغاء الآخر، بسبب ممارسات دعاتها من ناحية، وفجور أعدائها في الخصومة من ناحية أخرى.
أسباب الاختلاف السلبي تتضخم وتتكرس واقعاً نعيش كل تفاصيله وعواقبه، فيما عوامل التوحد والتقريب والاتفاق تضمحل يوماً بعد يوم، بفعل الضخ الإعلامي والممارسات السياسية والصراعات المسلحة، وهو ما يزيد الهوة بين المتقاربين.
وعوامل الاختلاف منها ما هو فطري، بفعل اختلافنا في القدرات الشخصية، ومحدودية علومنا ومعارفنا، وبسبب تعدد زوايا النظر التي تعود لمحدودية قدراتنا الشخصية، ومنها ما هو مكتسب بسبب اختلاف مصالحنا وأهوائنا ودوافعنا ورغباتنا ومخاوفنا وأطماعنا، وهذه هي الأسباب الحقيقية لكثير من الخلافات والاختلافات السلبية اليوم.
من أهم أسباب الاختلافات التي يمكن رصدها هنا عدم معرفة المختلفين بطبيعة بعضهم، نحن لا نعرف الآخر بشكل جيد، وعندما لا نعرفه بشكل جيد نذهب لأيسر الطرق في تبرير خلافنا معه، وهذا الطريق هو إرجاع سبب الخلاف إلى الآخر الذي نصر على تخوينه وشيطنته، وفي أحيان كثيرة الافتراء عليه، وهو ما أطلق عليه القدماء «الفجور في الخصومة» الذي يكاد يكون سمة بارزة لدى المختلفين. ومبعث هذه النظرة السلبية للآخر يكمن في «سوء الظن» به، وهو السوء المنبني أصلاً على الجهل بهذا الآخر، وهو الجهل المؤدي إلى التصورات الخاطئة التي تصوغ فيما بعد علاقتنا السلبية بهذا الآخر الذي نتعامل معه على أساس من «صورته الذهنية» لدينا، لا واقعه الحقيقي.
ومن أخطر نتائج نظرتنا السلبية للآخر تجويز الافتراء عليه، وذلك أن من يفتري ينطلق من تصور صدور «الأفعال المفتراة» من قِبل الآخر، حتى ولو لم يفعلها، وهذا الأمر هو السبب وراء هذا الكم المهول من الكذب والزيف والبهتان والتزوير والتحريف الذي تعج به وسائل الإعلام المختلفة، عندما يتعلق الأمر بصورة الآخر لدى الذات. مرة أرسل لي أحد نشطاء «التواصل الاجتماعي» خبراً مرفقاً بصورة قال إنها لنجل أحد القيادات السياسية في بلاده، وهو في وضع «غير أخلاقي» وعندما قلت له إنني أعرف «الولد» وإن هذه ليست صورته، قال: «لا باس، الخبر ينفع في معركتنا مع الفاسدين» وكأن «الفاسدين» ليس فيهم ما يكفي من الحقائق لإدانتهم، حتى نلجأ للتزوير والكذب!
ومن أسباب الاختلاف الاعتداد بالرأي والمكابرة وعدم الرجوع إلى الصواب، وهذا الاعتداد مرتبط بادعاءات الإحاطة والإلمام، وهو مزلق خطير يقع فيه المختلفون، عندما يتصورون أنهم يعرفون أكثر مما يعرفون في الواقع، خلافاً للمقولة الشهيرة: «من قال لا أدري فقد أفتى» أو الأخرى التي تقول: «لا أدري نصف العلم» وقد يتطور الاعتداد بالرأي إلى «التعصب» المقيت القائم على الأهواء والأمزجة، حيث التعصب هو طريق الأتباع «المقلدين» فيما يُعد التحرر من التعصب سمة الأئمة «المجتهدين» حسب المقولات التراثية الراقية.
والتعصب ناتج عن الهوى المختلط بالمصلحة، حيث الرضا عن الصديق يخفي العيوب والسخط على الخصم يبديها، حسب البيت الشهير:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
وإذا وصلنا إلى مرحلة التعصب نكون قد بلغنا مرحلة «التمترس» التي يرى من يمرون بها الخطأ في حزبهم السياسي أو جماعتهم الدينية أو ميليشياهم المسلحة، ولكنهم يظلون على تصلبهم في الدفاع عن المخطئين، لا لسبب إلا لأنهم «متمترسون» وعند الوصول إلى حالة التمترس هذه يصعب الخروج منها، لأن الخروج من «المتراس» يعني أن تصيب المتمترس رصاصة العدو المتربص، وهذا ما يجعلهم يستمرون في حالة «التمترس» التي بدأت حول الرأي، لتنتهي بالتخندق حول الحزب أو الجماعة أو الميليشيا، ظالمة أو مظلومة.
وعند الوصول إلى مرحلة التخندق فإن كل ما يصدر عن «معسكرنا» يكون صواباً مطلقاً، وكل ما يصدر عن «معسكر» الآخر يكون خطأ مطلقاً، وتضيق الاحتمالية التي تحدث عنها إمام الأصوليين الشافعي بقوله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» وتضيع فرصة الاستفادة من تجارب الآخر أو مراجعة تصوراتنا وتقييماتنا له، بناء على ما يقول ويفعله، وعندها نخرج من دائرة تبادل الآراء إلى تبادل الرصاص.
ويرتبط بتلك المسألة واحد من أهم أسباب الاختلاف، وهو ذلك الذي يكمن في أننا نشكل صورة الآخر لدينا، بناء على ما قيل عنه، لا على ما قال هو، ونأخذ أقواله المنسوبة إليه في وسائل إعلام أخرى، لا أقواله التي نشرتها وسائل إعلامه، وغالباً ما نميل لأقوال الخصوم عن الخصوم، بحثاً عمَّا يدعم التصورات المسبقة التي لدينا، والأحكام الجاهزة التي لا مجال لمراجعتها.
وعندما تصل آراؤنا إلى درجة «عدم المراجعة» فإنها تتحول من كونها «آراء» إلى كونها «أحكاماً» ونحن عندما ننتقل من دائرة الآراء إلى دائرة الأحكام، أو عندما نرفع الآراء إلى درجة الأحكام فإننا هنا ندخل المحاذير التي بموجبها تتقمص الذات صورة «القاضي» ويتم تصوير الآخر على صورة «المدان» وهذه هي مرحلة الخطر التي بلغناها اليوم بالفعل، وهي المسؤولة عن تفجر الحروب الأهلية داخل بعض بلداننا العربية التي تعاني من تبعات تلك الحروب منذ فترة طولية.
ختاماً: المراجعة الشاملة لنظرتنا للآخر تتطلب مراجعة شاملة للذات، وهذه المراجعات كفيلة ببناء علاقات إيجابية بين الذات والآخر، أياً كانت هذه الذات أو كان هذا الآخر، والبداية من مراجعة الذات، والانخلاع عن رواسب مراحل الصراع، والتحلي بآداب الاختلاف التي يزخر بها تراثنا الفقهي والفكري والفلسفي بشكل مدهش، وفي مقدمة هذه الآداب ابتغاء الحقيقة لا غير، سواء ظهرت على لسان الذات أو جاءت ضمن كلام الآخر، وهذه أعلى درجات تواضع المتواضعين، ومبلغ الكُمَّل من الرجال والنساء.
يُروى أن أحد كتبة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كتب باسمه كتاباً، جاء فيه: «هذا ما رأى الله، ورأى عمر». فقال عمر: «بئس ما قلت» قل: «هذا ما رأى عمر، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر» وهذه الحال من التواضع هي التي تمنح صاحبها الشجاعة الكافية لنسبة الخطأ ـ إن وجد ـ إلى ذاته.
وهذه الحال هي على النقيض من تلك التي عليها كثير من المتحدثين في الشؤون العامة، ممن رأوا أنهم يعرفون كل شيء عن كل شيء، وهم في الحقيقة لا يعرفون أي شيء، وهي الحال التي جاء وصفها في بيت أبي القاسم الآمدي الذي يقول:
ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري
وأنك لا تدري بأنك لا تدري
*نقلا عن القدس العربي