العالم منقسمٌ حول أردوغان والأتراك أيضاً!
وهذا طبيعيٌ جداً، لأنّ هذا الانقسام المتنافِس في ظنّي كان المحفّزَ الأكبر للرجل والباعث لكل نجاحاته منذ ثلاثين عاماً على الاقل وحتى اليوم.
لكن المفارقة تظل أنه كلّما زاد الانقسام حوله فاز بعنادٍ مدهش وانتصر باستحقاقٍ مُبهِر وعبر صناديق الاقتراع.
في 2005 وخلال ساعاتِ أمسيةٍ رمضانية طويلة وغريبة رافقتُ فيها أردوغان عشية 25 أكتوبر في 2005 ونظّمتُ أثناءها حفلاً إنشادياً على شرفه ووفدِه المرافق في مسرح الهواء الطلق المطل على بانوراما المدينة القديمة.
خلال تلك الساعات بوقائعها المفاجئة ربما تكشّفَت لي بعضٌ من ملامح الرجل الذي بدا لي أنيقاً ووسيماً مثل نجمٍ هوليودي. لكنه يخفي تحت إهاب شخصيته الظاهرة الأنيقة محارباً عنيداً وقويّاً وفريداً.
من التاسعة مساءً وحتى الواحدة بعد منتصفِ ليلةٍ رمضانيةٍ باردة كنا مع أردوغان في بيوت فقراء صنعاء ومع أطفالها وحتى بعض المعاقين الذين صادفناهم في الطريق!
كنتُ أشرح له تاريخ المدينة ومعمارها بينما كانت عيناه تبحثان طوال الوقت عن أطفال الحارات! وهذه إحدى معالم شخصيته!
تعوّد الساسة والقادة العرب والمسلمون أن تكون زياراتهم قبل وبعد رمضان! لكنّ اردوغان العملي المزدحم شديد النشاط سيّان عنده رمضان أو غيره. وهذا مَعْلَمٌ آخر من معالم شخصيته.
الزيارة في ظاهرها اقتصادية لكنها كانت في الاساس طلباً لتصويت اليمن في منظمة المؤتمر الإسلامي لانتخاب المرشّح التركي أكمل الدين إحسان أوغلو أميناً عاماً للمنظمة والذي فاز بالمنصب بعد أسابيع.
كان التخطيط للأمسية أن تكون في المسرح فحسب وحتى يشاهد قصور صنعاء المضاءة ويغادر .. وإذا بأردوغان يفاجئ الجميع بما لم نتوقع!
فجأةً، رأى طفلاً وجرى بعده ليسأله ما اسمك؟ وأين بيتكم؟ وهل تسمح أن نزوركم؟ فأشار الطفل إلى البيت الذي كان على مدخل بوابة المسرح والمفاجأة كانت أنه بيت حارس المسرح الرجل الطيب العم أحمد الكدَس!
كنا مذهولين ونحن نتكدّس في الغرفة الصغيرة وأردوغان وزوجته بين أطفال الكدَس وهو يسألهم عن أسمائهم ثم يطلب من كل واحدٍ منهم أن يُسمعه سورةً من سور القرآن الكريم! وبعد أن سمعهم وقف فجأةً ليوزّع جعالة للأطفال الأربعة.. وغادر ونحن وراءه!
وعندما صعدنا ماشيين مدخل بالرّوم أو باب الرّوم صوب قلب المدينة فوجئنا بأردوغان يمشي وحيدًا ناحية اليمين تحت بيت الشهاري والأمن وبعثة الشرف والوفد يجرون بعده! وإذا به ينحني على معاق فوق عربية وأخذ اسمه وكلّم السفير التركي كي يأتي به إلى تركيا لعلاجه .. وبالفعل ومن خلال متابعتي سافر المعاق إلى تركيا!
ولم نكد نمشي قليلاً حتى جرى صوب طفلٍ في السادسة من عمره وسأله بنفس الطريقة .. وأشار الطفل نحو بيته! ودخلنا البيت بعد الطفل .. ولم يكن في البيت أحد!
وانتظرنا الشاي دون جدوى! وحاولتُ أن أستعجل الشاي مراراً بلا فائدة إذْ لا أحد في البيت! وكلها من أردوغان وبساطته المفاجئة وغرابة كسره لكل بروتكول! ..
وغادرنا البيت في القاسمي صوب ميدان الأبهر، وحين رأى أردوغان بائع الزلابيا المتجوّل وقف أمامه وطلب الزلابيا الساخنة وبدأ بالتهام الزلابيا مع زوجته! همس في أذني أحد رجال الأمن متسائلاً : الظاهر أنّ الرجال خرج بغير عشاء من القصر الجمهوري أو كيف! .. أجبته: قد جُعنا نحن في هذا المشوار الطويل المرهق ووقفاته ووسط هذا البرد!، وعدنا للمشي صوب باب اليمن ليتوقف أردوغان لالتهام الحلويات الصنعانية وبعضُها كما هو معروف تركيٌ في الأصل، وأخيراً خرجنا من باب اليمن لنجد السيارات بانتظارنا .. وعاد كلٌ إلى مأواه!
في تلك الساعات الأربع ربما أكون قد تكشّفتُ بعضاً من ملامح هذه الشخصية: بساطة القوّة وقوّة البساطة، السياسي يمتزج بالترويجي والإعلامي بشكلٍ تلقائي وحقيقي في هذه الشخصية، حبُّ الاطفال العارم والتحنّن إليهم والعطف على بسطاء الناس وخدمتهم، العلاقة بالشارع أولاً وثانيا.
تحت إهاب هذا الرجل الوسيم الأنيق ثمة محاربٌ عنيدٌ وشديد درجة المغامرة!
يكفي أن نتذكّر وقفته الشجاعةك مع قطر حين أرسل جيشه لحمايتها من ضربة سعودية متوقعة حذر منها أمير الكويت الراحل لو تتذكرون!
تلك كانت لمحاتٍ سريعة عن تلك الزيارة وعن شخصية بطل تلك الأمسية الرمضانية الباردة المحارب العنيد رجب طيب أردوغان!
نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.