لا جدال أن كأس العالم هو الحدث الكوني الأبرز الذي يجذب اهتمام البشرية جمعاء، ويضعها في مكان واحد، ويتوجه إليه سكان الكرة الأرضية بمختلف أعراقهم، ولغاتهم، ودياناتهم، وشعوبهم، ويعيشون شهرا كرويا ممتعا، بعيدا عن لغة الحرب، والضغائن، والصراعات، خاضعين فيه لقوانين كرة القدم، التي تحتفظ بشهرتها وجاذبيتها كلعبة دولية منذ عقود طويلة.
هذه المناسبة الرياضية الكبرى ينتظرها العالم كل أربع سنوات بشغف وترقب، وتتنافس لاستضافتها العديد من الدول، وتُرصد لها الميزانيات، ويجري الاستعداد لها منذ وقت مبكر، وأصبحت محطة فاصلة في تاريخ الرياضة، والرياضيين، بما تقدمه من أرقام وبطولات، ومواقف، وذكريات، ولحظات لا تنسى من الذاكرة، وباتت جزء من تاريخ الشعوب، والأفراد، والجماهير، على حد سواء.
لكن استضافة قطر لهذه البطولة الدولية له معنى آخر، فقطر بحسابات المكان تعد ثاني دولة في قارة آسيا تستضيف البطولة على أراضيها بشكل كلي، بعد كوريا الجنوبية واليابان اللتان استضافتا البطولة بالمناصفة في العام 2002م، وهي أيضا أول دولة عربية، وشرق أوسطية، وخليجية تنظم هذه البطولة، وتقام في أراضيها، وتجلب العالم بأكمله إلى هذه المنطقة العربية، التي ظلت خارج حسابات الرياضة، وجغرافيا كرة القدم.
أما بحسابات الإنجاز فإن قطر بهذه الاستضافة تكون قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، وحفرت اسمها في ذاكرة الرياضة بعمق وتألق وخلود أبدي، وأثبتت نجاحها في خدمة البشرية، وحجزت لقيادتها وشعبها مكانة متقدمة في مصاف الدول الرائدة والمؤثرة، وأثبت للعالم أجمع أن المال ليس وحده معيار النجاح، بل الإرادة والعزيمة والمثابرة والتحدي والتخطيط الأمثل، وهي العوامل التي يجب الأخذ فيها لتحقيق النجاح، وهو ما فعلته قطر منذ إعلان استضافتها لكاس العالم في الثاني من ديسمبر 2010م، من خلال شجاعتها أولا في التقدم للاستضافة، ثم الترتيب والتجهيز لها، وصولا إلى انطلاقها، ووعود الدوحة بأن تكون هذه النسخة الأضخم في تأريخ كاس العالم، من حيث الإبهار والتميز والتجهيزات.
إن أهمية استضافة قطر لهذه النسخة من البطولة لا تظهر فقط مستوى الترتيب لها، بل إنها أيضا تبرز شخصية قطر كدولة ونظام سياسي، في التعاطي مع هذا الحدث طوال أكثر من عقد، تعرضت طوال ذلك لحملات مستمرة من التضليل والتشويه، والإساءة، التي لم تنقطع حتى قرب موعد الانطلاق، وتحملت الكثير من الضغوط والدعايات الملفقة، بشكل غير مسبوق بالنسبة للدول المستضيفة لهذه البطولة، وذلك لم يكن ليحصل سوى أن قطر قررت دخول مربع الكبار، كواحد من الكبار، واقتحام عروش الدول التقليدية التي ظلت محتفظة لنفسها بهذه المنافسة الدولية، لما يقارب القرن من الزمان.
ومع ذلك تعاملت قطر مع كل تلك الحملات الممنهجة بدبلوماسية عالية وفريدة، وتمكنت من إكمال الطريق نحو كأس العالم بكل ثقة واقتدار، ونجح العقل القطري في تجاوز كل ذلك، وأثبت جدارته في التعامل مع حدث كوني كبير بحجم وضخامة كأس العالم، بكل ما للحدث من معنى ودلالات.
هذا النجاح اليوم لاستضافة كأس العالم، لا يخص قطر فقط، ولا يمثل نجاحا لها وحدها فحسب، بل إنه فخرا لكل العرب، وانتصارا للإنسان العربي، وتذكيرا بالمنطقة العربية، وشعوبها، ورياضتها، وحضارتها، وهي المنطقة التي ظلت خارج كل هذه اللعبة، وبعيدة عن الاهتمام الدولي، بل ولم يكن واردا في الحسبان يوما ما لدى الكثير حول العالم أن تنطلق صفارات المباريات لكأس العالم في سماء عربية، وتحت شمس العرب، وفوق تربتهم ورمالهم.
لذلك نحن اليوم كعرب بحاجة ماسة لقطر، التي خاضت وتخوض هذا الإنجاز الكروي التاريخي، أكثر من حاجتها لنا، فهي مضت في مشوارها منذ الخطوة الأولى، وسلكت دربها بهدوء وصبر وتفان وتميز وصولا لهذه اللحظة من تاريخها، أما نحن فندين اليوم لقطر وقيادتها وشعبها بهذا الإنجاز، الذي يعيد تعريفنا وتقديمنا كعرب للعالم، ويكسر الصورة النمطية المغلوطة عنا، ويثبت للجميع أن العرب قادرون على فعل الكثير، وأنهم أيضا على قدر كبير من المسؤولية، والنجاح ليس فقط في استضافة البطولة وتنظيمها، بل وفي جعلها متميزة وفريدة، ولا تنسى من الذاكرة.
اليوم نحن معنيون كعرب في المقام الأول بالاحتفاء بهذه المناسبة الكروية التي تأتي بنكهة القهوة العربية، وجَلَد الإبل العربية، وكرم الضيافة العربية، وهذه النسخة التي تحمل الرقم 22، وتُنظم في العام 2022م، ستكون أهم حدث عربي عاشته منطقتنا العربية طوال أكثر من قرن وأزيد، وستختم هذا العام – بإذن الله –بأعظم نجاح عربي، وعاقبة الصبر الجميل جميلة، كما يقول المثل.