تجمعي يا أحزان لابثك للحي القيوم ثم "اسْكُني يا جِراحْ واسْكُتي يا شُجُونْ، ماتَ عَهْدُ النُّواحْ، وزَمَانُ الجُنُونْ"..
نحتفي بقهوتنا اليوم واليمن حزين لكثرة ما سُفكت فيه من دماء الأبرياء، ولشتات أهله بعد ستة عقود من قيام النظام الجمهوري، وما أكثر أحزان اليمن ليس بسبب ما يجري في هذا الجزء من اليمن "الجمهورية اليمنية" فقط بل هي أحزان تمتد في كل ارجاء واتجاهات اليمن الكبير، أينما تُوجد القهوة تُوجد اليمن، وأينما يُوجد العرب تُوجد اليمن، وأينما يُوجد التوحيد توجد اليمن، هي أحزان جمّة لا أنوي إثارتها، ولا أنوي أن أبث فيكم بعضاًً مما في محراب أحزاني.
دعونا نفتتح حديثنا برشفة من موكا، من سحرنا الذي غزا العالم أجمع، واقتحم كل بيت ومسجد وكنيسة ومعبد، وكل خلوة شغف بين اثنين، وكل نادي وحفل وحزن وفرح، قهوتنا سفيرة الأحزان والأفراح والخلوات هي التي هاجرت تحمل أسمنا الخالد " أرابيكا" (ARABICA) وهي اختصار للعربية السعيدة الممتدة في كل جنوب الجزيرة العربية، وهذه الأخيرة هي بلادي التي أنتمي إلى كل من فيها، ولكل جزء فيها بدون استثناء، للحضارات اليمنية المتعاقبة على امتدادها وللتاريخ والفن والثقافة وعاداتها وتقاليديها وقيمها وشيمها.
لن أخذكم معي في غياهب التاريخ ومتاهاته، ولكن لا بأس أن يُحدثكم هذا المُسافر عن السفر، ويُسافر معكم إلى القرن الخامس عشر الميلادي وهو بداية قرون التعاسة والعزلة، حيث ألقت أوروبا بلعنتها وقراصنتها وغزاتها وهمجها على أبواب عدن، وعدن مفتاح اليمن وبداية الشرق ومنتهى غاية الغرب، وحلقة الوصل بين قارتي آسيا وأفريقيا.
في هذه الفترة يُحدثنا تاريخ غيرنا بزهو وفخر عن اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، كان هذا الاكتشاف بالنسبة لليمن قاصمة الظهر، ويُنهي مرحلة من مراحل الاقتصاد البحري الذي بدأ في عهد الدولة الحميرية، والتي تشكلت بعد أن انتهت طريق تجارة البر المسماة بطريق البخور، وازدهرت فيها طريق البحر وحملت التجارة على السفن وظلت اليمن دولة بحرية لقرون طويلة، سواء كانت تحت حكم الحميريين أو الدول التي أتت بعدهم، فقد ظلت اليمن تقوم بدورها الوسيط الاقتصادي بين الشرق والغرب، فموقعها أهلّها لأن تكون حاضرة في مختلف العصور.
إلى أن وصلت سفن ومدافع الغزاة الأوروبيون- البرتغاليون - بأسلحتهم ومدافعهم في 1502 فحاصروا باب المندب والبحر الأحمر وفرضوا سيطرتهم على البحر العربي. وفي تلك الفترة لفظت الدولة الطاهرية في اليمن أنفاسها الأخيرة، وكذلك وصل الحال بالدولة المملوكية في مصر، وذلك مع تغيير طريق التجارة العالمي، حيث انتهت أهمية اليمن وموقعها الاستراتيجي، فدخلت البلاد في مرحلة من العزلة، لتأتي الدولة العثمانية إلى اليمن عام 1538م وتُكمل الباقي، حيث حولت البحر الأحمر إلى بحيرة مُغلقة لحماية المقدسات الإسلامية.
لكن اليمن كسرت العزلة وعادت للظهور هذه المرة عن طريق ميناء المخا وصدرت القهوة للعالم، فحملها الأتراك والأوروبيون حبوباً وشتلات، فكانت القهوة اليمنية "موكا كافيه" علامة فارقة في إعادة رسم ملامح الهوية اليمنية، وذهبت مُبشِرة باليمن في أرجاء الكون، في تلك المرحلة حصلت هجرات يمنية جديدة، حيث هاجر الناس خلف أرزاقهم بحثاً عن أوطان جديدة في جنوب شرق آسيا، وحملوا معهم القهوة ليزرعوها في سومطرة بإندونيسيا. المهم في الأمر أن القهوة اليمنية حاصرت العزلة وفكت القيود، وبدلاً من عزل الغزاة لليمن اليمن فإذا بها عاودت الانتشار والظهور عن طريق القهوة.
وحتى بعد أن أتى الغزاة الأوروبيون مرة أخرى مع الإمبراطورية الإنجليزية -عام 1799 عندما احتلوا جزيرة ميون في مضيق باب المندب واحتلوا عدن في عام 1839- ظلت القهوة اليمنية تجوب العالم. وبعد أن تمكنت بريطانيا من تقاسم النفوذ مع العثمانيين، وبعد أن أصبحت اليمن ضمن تركتها بعد الحرب العالمية الأولى قامت بإعادة توزيع خارطة اليمن الكبير وقسمته إلى محميات، ومشيخات، وسلطنات، ووزعت اليمن الكبير فعلياً إلى ثمانية أجزاء، تحولت إلى دويلات ضعيفة ومتناثرة ومعزولة عن بعضها وتابعة للاحتلال، - مازالت تبعيتها مستمرة إلى اليوم- وظلت القهوة إحدى الروابط القوية بين اليمنيين، ولا تقل أهمية عن روابط الدم والدين واللغة، فهي مشترك يمني بين كل اليمنيين، ومشترك عربي وكل عربي ينتمي لليمن مرتبط بقهوتها منذ الأزل، تغيرت الأحوال والظروف والعادات والتقاليد وحافظت القهوة على مكانها في صدارة المجالس والدواوين والديوانيات والمنتديات وخيام الشعر، وفي كل بيت.
لماذا قهوتنا مُرّة؟ لماذا نتعمد شربها بدون إضافات؟ لكثرة تعلقنا بها كما هي سمراء غامقة تشبه سحنتنا اليمنية، ولتعلقنا برائحتها التي لا تشبه سوى رائحة أرضنا العطرة، وبطعمها المُر الذي يشبه كثرة أحزاننا، وكما يقول البردوني "مرة أحزاننا ... لكنها- يا عذاب الصبر - أحزان الرجال".
يُخيل للبعض عندما نتحدث عن اليمن الكبير أننا فقط نُشير إلى أن اليمن هي الجمهورية اليمنية ومساحتها المرسومة بخارطة شطري اليمن شمالاً وجنوباً فقط، لكن في الحقيقة اليمن أكبر من ذلك جغرافياً وديمغرافياً وثقافياً، قد نكون في هذا الجزء البسيط من اليمن من تمسك بيمنيتنا فقط، وهذا أمر مفروغ منه وحصل نتيجة لظروف كثيرة على مدار التاريخ، ومع ذلك فنحن اليوم مطالبون بإعادة النظر في هذا الأمر، خاصة بعد أن سقطت دولتنا في انقلاب طائفي نفذته السلالة لصالح إيران ولصالح قوى معادية لليمن، بكل ضعفنا وتشرذمنا اليوم في الداخل، وبكل شتاتنا في المنافي، توجد قوة كامنة في أرواحنا وقلوبنا تُسمى اليمن لا نستطيع نسيانها، تُذكرنا بها الحوادث التاريخية، وتُذكرنا بها الأحداث وظروف الحرب، وتُذكرنا بها القهوة اليمنية اليوم، نتداعى من كل حدب وصوب نحو اسم اليمن أينما سمعنا هذه الأحرف الثلاثة تترد -ي م ن – وهذا واجبنا بكل تأكيد بعيداً عن الانتماءات الصغيرة أيّاً كانت، فلدينا انتماء حقيقي لهويتينا اليمنية، والقهوة اليمنية جُزء لا يتجزأ من هذه الهوية.
ثقافياً لا يمكن اختزال اليمن في جغرافيا صغيرة فأينما يوجد اليمني توجد اليمن سلوكاً وقيماً وعادات تقاليد وروابط بلا حصر، يستطيع اليوم أي عربي أن يصف نفسه أنه من اليمن، فهو يحمل لقب عائلته القديمة التي هاجرت قبل خمسة ألف سنة وثلاثة ألف سنة وألفي سنة وألف وخمسمئة سنة، وألف سنة وخمسمئة سنة، ومائة سنة، في كل أجزاء الوطن العربي تُوجد اليمن بصفة غالبة وأغلبية بلا مُنافس، لا أحد إلا ويعود من أصل يمني ولا ولد يُراد أن يُقال انه ليس ابن عرب، ولفظة عرب هي المرادف الأصلي للفظة يمن، ويمن أسم علم مذكر وأصله أيمن ابن يعرب، ومن هناك كانت التسمية، وبتلك التسمية التصقت اسم القهوة العربية.
هناك من يريد تأطير اليمن تحت اسم سلالة، أو عرقية أو طائفة معينة، وهذا مستحيل، وحتى تأطير تاريخ اليمن بعصر معين دون بقية العصور اليمنية الممتدة لما يربو عن ستة آلاف عام، منها ثلاثة آلاف عام من عمر الدولة الفيدرالية الشوروية، يُعد نقصاً في معرفة اليمن وتوسعه الجغرافي والديمغرافي والثقافي، كما أن هناك اليوم من يريد تأطير القهوة اليمنية ويستحي من ذكرها باسمها يمنية، ويُريد أن يصنع للقهوة اسماً قُطرياً يشبه قُطره السياسي، قرأتُ في مواقع إعلامية تقع ضمن خارطة اليمن الكبير أخبار ومقالات تحاول الهروب من وصف القهوة باليمنية، وتحاول اختلاق تاريخ للقهوة بمسمى أنها أتت من الحبشة إلى عدن ثم إلى أقطارهم، فهم لا يُدركون أن القهوة عمرها أكبر من عمر الأقطار والعوائل والمشايخ والأنظمة القائمة اليوم كلها، وهي أحجية سبئية لا نستطيع التكهن بعمرها على وجه التحديد.
إنه الهروب من الأصل والتاريخ المشترك، من الثقافة والعادات والتقاليد المشتركة، وكأنهم بنسبتها إلى الحبشة قد أبعدوها عن اليمن، ولا يعرفون أن الحبشة نسبة إلى قبيلة "حبشت" اليمنية، وبكل تأكيد لا يُريدون قراءة التاريخ اليمني- الحبشي المتداخل، ولا يريدون أن يقفوا عند نقطة محورية هامة تقول أن أفضل أنواع القهوة في العالم اليوم - أينما كانت مزروعة عبر أراضي حزام القهوة - هي القهوة اليمنية المعروفة باسم "أرابيكا" وسواء كانت مزروعة في اليمن الكبير، أو البرازيل أو أفريقيا أو سومطرة أو في أمريكا اللاتينية، فالشتلة الأولى يمنية والماركة الأولى عالمياً يمنية أرابيكا، وتليها روبوستا (Arabica and Robusta) ونبشرهم أن أربيكا أصلها يمني وروبوستا أصلها حبشي، وما يجمع الحبشة باليمن هي أوسان وسبأ.
أيها اليمنيون يا أهل القهوة والعروبة والنخوة لا تستسلموا للعُزلة ثانية، فالقهوة التي كسرت العُزلة بالأمس ها هي تكسر العُزلة التي يُراد لها اليوم، وكل يمني يحتفي معنا بالقهوة عليه أن يكسر العُزلة، فالعُزلة التي تريد الطائفة السلالية الإمامية فرضها اليوم على اليمن ضرب من المستحيل، لا تجارونها بالأفكار العنصرية، ولا بالعزلة، فقد كتب أجدادكم التاريخ وطوعوا الجغرافيا وعندما غلبتهم الفرس والروم، لملموا صفوفهم تحت راية التوحيد وأعادوا الكرة وغلبوا الفرس والروم، عليكم فقط إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر يمنية لتعرفوا أن كثير من الحقائق مازالت غائبة عنكم، عروبتكم مرادفة ليمنيتكم وهي قوميتكم الوحيدة فلا تتراجعوا عنها مجاراة أو محاكاة للسلالية الطائفية.
هناك من يريد تمزيق اليمن ولا يدري أنه يمزق العروبة ويُجزئ الوطن العربي لصالح قوى معادية باتت تتقوى بكل هذا الضعف العربي، احتسوا قهوتكم وقوموا إلى تاريخيكم وأعيدوا المطالعة لتُحسنوا إعادة كتابة التاريخ، فأنتم على مشارف نهضة يمنية تُعِزُّ العرب وتلم شعثهم، فهذا الجزء من العالم هو منبع العروبة والتوحيد وبه استعادت اليمن مكانتها وكسرت الغزاة، وفتحت الدنيا بالسيف والقلم تارة، وبالقهوة تارة أخرى.
أخبروا العالم عن تجربتكم في مكافحة السلالية والإمامية العنصرية التي عادت من جديد، سيكون العالم بحاجة إلى خبرتكم -التي تستهينون بها- في مواجهة العنصريات التي تُبشر بها الحرب الدائرة اليوم في أوروبا، وكما ظهرت الهاشمية السياسية العنصرية عندكم من الممكن ونتيجة للصراع هناك أن تعود النازية والفاشية، فتاريخ الصراعات مُبشَر بعودة الأوبئة العنصرية، واصلوا كفاحكم متسلحين بقيمكم الروحية والأخلاقية وبنضالكم المشرف وبإنسانيتكم في السلم والحرب، ومن سخروا منكم بالأمس سيحتاجونكم في الغد، وتذكروا للمرة الألف أن القوى العظمى التي تتصارع اليوم قد نشرت أيدولوجياتها (الاشتراكية والرأسمالية) عن طريق القوة والغزو والاحتلال، بينما أنتم نشرتم فكرتكم اليمنية عن طريق موكا كافية، وحزام القهوة في العالم يشهد لكم، احتسوا قهوتكم وكونوا معنا يمنيون للأبد.
*نقلا عن موقع "اليمنيون"