دع عنك ما تسمعه عن كثرة النقاط "الأمنيّة" المنتشرة بين المتر والآخر على امتداد الطرقات في البلاد، ودع عنك ما تعانيه هذه الطرقات وما وَصلَت إليه من شيخوخة وخروج عن الخدمة رغم الجبايات الكبيرة التي تتم عليها، ودع عنك ما تعانيه أنت فيها من همجيّةٍ وتجريفٍ لحقوقك كمواطنٍ له كامل الحرية في التنقل داخل وطنه دون أن يعترض سبيلَه أو ينتهك حريّتَه وإنسانيّتَه أحد، ثم دع عنك أخبار (كِيِيف) و(موسكو)، و(بوتين) و(زيلينسكي)، ودع جانبًا ما يثار عن المعراج المحمديّ، أو الزرادشتي، وعن حفظة القرآن، أو باعة الإيمان؛ وتعال معي إلى (فَوْفَلَة)، تعال أحدثك عن المعراج الصَّخرِيّ.
سَفَرٌ يَشِيبُ به الجَنِـينُ، ويَنحني
ظَهرُ الرَّضِيعِ، وتُجهِــضُ العَـذراءُ
أنت الآن في محافظة (تَعِز)، جنوبي غرب اليمن، وتحديدًا أمام بوابتها الشرقية (الحَوْبان)، وفي اعتقادك أنك (بعد سفرٍ إليها استغرق 7 ساعات) قد وصلتَ أخيرًا، لكنك -وبكل أسفٍ- لم تصل إلّا إلى نقطة البداية في سفرك الحقيقي، وعليك الآن وبشكلٍ مستفِزّ وإجباريّ أن تترك المدينة خلفك، وتميل يسارًا، باتجاه محافظةٍ أخرى، اسمُها (عَدَن)، وبعد ساعتين من سفرك في هذا الاتجاه الإجباريّ ستكون قد مررتَ على مناطق عدة، منها (السويق) و(وادي القرين) و(الأقبوس) و(وادي السحب) و(أُجِّلَة) و(الزَّيلعي) و(وادي الكَمْب)، لتصل في الأخير إلى (الدِّمْنَة) (دِمنة خَدِير)؛ ومنها عليك أن تميل يمينًا، لتبدأ مرحلةً جديدةً من هذا النفير المُضنِي، ستمرّ فيها على مناطق (الأهجور) و(مؤيمرة) و(المقهاية)…، لكي تحط رحالك أخيرًا.. ولكن في (فَوْفَلَة)، حيث الجبالُ جاثيةٌ أمامك كأنها أحزان يعقوب.
في (فَوْفَلَة) ستكون على خط التّماسّ بين "الدولة، والحوثيين"، أمامك سُلطةٌ، ووراءك سُلطة، هنا عُملةٌ، وهنا عُملةٌ أخرى، هنا شعار، وهنا راية؛ وأنت الآن متجه صوب الدولة، وهذا دافعٌ كافٍ لاستجماع ما تبقى من روحك، لكنه لا يعني أنك انتهيت من وَعثاء السفر، وقطعان الحُفر؛ فأنت هنا في فوفلة على ساحةٍ تشبه المقبرة القديمة، ممتلئةٍ بالباصات المتوسطة، وسيارات الدفع الرباعي القديمة، حيث تتم هنا عملية استبدال الباصات القادمة من المدن بسيارات الدفع الرباعي القروية المتهالكة؛ وعليك (أنت والركاب والحمولة) الانتقال من هذه إلى تلك، في "ترنزيت" يستغرق ما يقارب الساعتين، تمتزج فيه حوقلات كبار السّن ببكاء الصغار، وحشرجات المرضى بوجيب النساء؛ لتبدأ بعدها مرحلة الصعود الشاق إلى جبال (سامِع) التي لا تكاد تصل عيناك إلى ذُراها.
وأنت في منتصف (نَقِيل حِصّة) ستتعجب من تكيّف الناس مع واقعهم، وإصرارهم العجيب على ترويض الطبيعة وقهر الظروف، كما ستتعجب من سفرهم المتواتر عبر هذه الجبال، ذهابًا وإيابًا، بحثًا عن أرزاقهم، ثم سيزيد عَجَبُك وإعجابُك حين تعلم أن الأهالي وسائقي السيارات هم مَن قاموا باستحداث هذه الطرق الجبلية، بعد حصار المدينة وإغلاقها في وجوههم من قِبل الحوثيين قبل سبع سنوات؛ بل واشتروا الأراضي في بعض المناطق ليشقّوا الطرق عبرها، دون انتظار دولةٍ، أو مجتمع دولي.. ثم ها أنتذا الآن في معراجك تترنح يمنةً ويسرةً.. تعلو وتهبط على مَقعدٍ أدرَد.. ويكاد يُغمى عليك من الإرهاق والسهر.. تنظر في وجوه المسافرين.. نظرةَ اشتياقٍ وتعليل.. وكأنك تسألهم: (أَطَوِيلٌ طريقُنا؟ أَم يَطولُ؟!)، (هل سنعيش إلى أن تتوقف هذه العجلات)؟! (كيف تطيقون العبور من هنا)؟! (لماذا لا تصرخون)؟!.. ورغم ما تشعر به وتراه من عَنَتٍ ومشقةٍ، يقال لك: إن هذه الطريق هي الأخفّ وعورةً وخطورةً من بقية الطرق المستحدَثة!
سيُخيّل إليك وأنت في (حَوراء) أنك قد قطعتَ المسافةَ الأشد إجهادًا، ولكن سرعان ما سيَخِيب ظنك، فأمامك (بُكْيَان) و(الظُّهار) وما لا يُحصى من القرى والجبال، ثم في الأعلى سيستقبلك (نَقِيل فَضَاحَة) حيث القمة التي ستهوي بك وأنت مستجمع أعصابَك كلها في يديك، لشدة الانحدار والوعورة، وبعد أن يكون رأسُك قد انغرس بين كتفيك، ستصل أخيرًا إلى (العَيْن)، ومنها إلى (الأَعلُوم) ثم سوق (الأحد) ثم تنعطف منه يسارًا باتجاه (الفَوَادِع) أو يمينًا إلى (الكَلائبة) لتبدأ مرحلةً أخرى من الصعود والهبوط.. في رحلةٍ ماراثونية كانت لا تستغرق منك قبل الحصار أكثر من 10 دقائق، تعبر بها إلى الجهة الأخرى من المدينة، وأصبحت اليوم 8 ساعات، محفوفة بالمخاطر والرعب.
إن كنت قد تعبتَ من هذا السفر، ومللت من هذا السرد، فهناك معلومة أخيرة قد لا تهمك، وهي أن أكثر من منظمة حقوقية عالمية اعتبرت حصار تعز جريمةً ضدّ الإنسانية، وأن أكثر من مندوب أممي قد حمّل الحوثيين المسؤولية الكاملة عن حصار المدينة، وأن اتفاق (ستوكهولم) قبل خمسة أعوام قد تضمَّن تفاهماتٍ بشأن فك الحصار عن المدينة، وأوصى بتشكيل لجنتين من الحكومة والحوثيين لنقاش آليةٍ لحل الوضع الإنساني فيها وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب والحصار، ولكن اللجنتين لم تنعقدا حتى اليوم، مما يثبت وبلا أدنى شك أن الطرفين مساهمان في حصار المدينة وخنق سكانها، كنوع من العقاب الجماعيّ الذي تتعرض له البلاد عامّةً، وتعز خاصّة.
