فجأة تحول الجزء الجنوبي من المملكة العربية السعودية، والذي يعد تاريخياً جزءا من اليمن، إلى ساحة مواجهة مع أكثر الشرائح اليمنية أهمية، والتي قدمت خدمات نوعية جليلة لمجتمع جنوب المملكة، في قطاع التعليم العالي والجامعات والمستشفيات، بعد أن تلقى أكثر من مائة كادر جامعي وطبي إشعارات بالإلغاء الفوري لعقود عملهم في جامعة نجران ومستشفياتها، كمحصلة أولى للإجراءات السعودية المرشحة لأن تطال بقية الجامعات والمستشفيات في المناطق الجنوبية للمملكة.
مشاعر القلق تسود الأوساط الأكاديمية والطبية اليمنية العاملة في جامعات الجنوب السعودية وبالأخص في مناطق عسير والباحة وجازان ونجران، وسيطال مئات آخرين من الكوادر الطبية، وأصحاب الأعمال والموظفين والعمال من الجنسية اليمنية في هذه المناطق، في إجراء يرقى إلى مستوى التهجير القسري، والوضع المتعمد لمئات اليمنيين وأسرهم في ظروف معيشية بالغة السوء؛ لم يتهيؤوا لمواجهة تبعاتها وتأثيراتها السيئة على حياتهم.
خلال العقد والنصف الماضي تسرب العشرات من الأساتذة الجامعيين من الجامعات اليمنية تحت تأثير الطلب المتنامي لخدماتهم النوعية في الجامعات السعودية، الجنوبية على وجه التحديد، حيث تواجه المملكة عجزاً على ما يبدو في تأمين كادر جامعي ومتمرس، وهو ما ينطبق أيضاً على الكوادر الطبية التي تسربت بالمئات باتجاه المستشفيات السعودية الجنوبية خلال الفترة نفسها.
لا يمكن وصف المشاعر التي تهيمن على مئات الكوادر الأكاديمية والطبية المحترمة، وهي تواجه مصيراً مفاجئاً وبالغ القسوة بعد سنوات من الخدمة في الجامعات والمستشفيات في جنوب المملكة، خصوصاً أن هؤلاء وُضعوا أمام خيار واحد فقط؛ هو مغادرة المملكة غير موفوري الكرامة، بل محاصرين بنظرات السلطات المتوجسة وانطباعاتها التي لم تتردد في جعلهم أهدافاً عدائية محتملة، وهو سلوك يتسق، لكن بحدية أكثر، مع النظرة السعودية الاستعلائية تجاه اليمنيين والتي تكرست طيلة العقود الماضية من زمن الطفرة النفطية.
لقد قوضت هذه الإجراءات المفاجئة والصادمة حياة المئات من اليمنيين بشكل كامل، ومنهم آلاف من رجال الأعمال الذين أجبرتهم قواعد الإقامة المذلة، إلى أن يضعوا كل مدخراتهم المالية التي تقدر بمليارات الريالات، تحت رحمة الكفلاء السعوديين. ومع ذلك يمكننا وصف الإجراءات الأخيرة بحق اليمنيين في جنوب المملكة بأنها الامتداد الأكثر سوءا لسلسلة من الإجراءات الغاشمة التي اتخذتها السلطات السعودية ضد اليمنيين في عموم المملكة، ودفعت بعشرات آلاف العائلات إلى مغادرة البلاد إلى دول أخرى؛ بحثاً عن بيئة سكن أكثر يسراً وأماناً معيشياً. وجزء كبير من هذه العائلات عاد إلى اليمن في ظل الظروف السيئة الناجمة عن استمرار الحرب التي تديرها المملكة بنفس طويل، وبتناغم كامل مع القوى المحلية العدائية التي تخوض تجربة الحرب لتثبيت نتائج الانقلابات والتمردات وتفكيك الدولة اليمنية.
إن هذه الإجراءات اللا إنسانية، لا تتوقف عند حد الأذى المادي والمعنوي الذي يلحق بشريحة من الكوادر اليمنية النوعية والمتميزة، ولكنها تفتح الباب على مصراعيه لتوقع المزيد من الإجراءات التي قد تطال اليمنيين في بقية مناطق المملكة.
لطالما اعترضنا على وصف حرب السعودية في اليمن على أنها عدوان، كما يردد ذلك خطاب مليشيا الحوثي الانقلابية المدعومة من إيران، غير أنه لا يمكن أن نصف الإجراءات السعودية ضد اليمنيين في المملكة إلا أنها حرب حقيقية على الشعب اليمني، انتقلت بقوة وجبروت إلى داخل الأراضي السعودية.
ومن المهم أن ننصح السلطات السعودية بإعادة النظر في هذه الإجراءات، لأنها من جميع النواحي تمثل خطراً حقيقياً على السعودية نفسها، إذ ليس من مصلحة السعودية أن ترسخ الانطباع لدى اليمنيين بأنها العدو الحقيقي الوحيد المتبقي أمامهم.
ثم إن استهداف اليمنيين في جنوب المملكة بإجراءات حاسمة بحيث لا تُبقى لهم خياراً آخر سوى المغادرة؛ إنما يُعطي انطباعاً بأن السعودية بدأت تكافئ الهجمات الإيرانية عبر مليشيا الحوثي على جنوب المملكة، عبر هذه الإجراءات غير العادلة التي تعكس بنظر المراقبين الوضعية المرتبكة للسعودية الكبيرة والمتخمة بالسلاح، إلى حد أنها لم تتردد في تحويل اليمنيين إلى مجرد خلايا نائمة أو كتائب عسكرية محتملة في معركة الحوثي ضد السعودية، وهي لعمري مجازفة عمياء وغبية، تتجاهل حقيقة أن الغالبية العظمى من المستهدفين أعداء لدودين للمشروع الحوثي الإيراني في بلدهم اليمن.
إن المرء ليتساءل: كيف لم تستطع الإمكانيات العسكرية والأمنية والاقتصادية الهائلة تحصين مناطق التماس مع اليمن، ليبرز هذا الخيار السيئ الذي جعل السلطات السعودية تعتقد أن الأمن سيتحقق عبر هذه السلسلة المؤذية من الإجراءات الموجهة ضد اليمنيين المسالمين المقيمين في أراضيها؛ التي تعد امتداداهم الجغرافي الطبيعي والتاريخي والديني؟
هذا يوصلنا إلى اعتقاد جازم مفاده: أن إجراءات ظالمة وغير مبررة كهذه لن أن تغطي في تقديرنا على حقيقة أن التحديات الأمنية في جنوب المملكة كما هو شرقها، لا تأتي من جهة اليمنين المقيمين والمناهضين أصلاً للميلشيات الانقلابية الشيعية والانفصالية، في بلادهم، بل من عوامل أخرى من بينها سوء الأداء العسكري السعودي في اليمن وفساد نخبه العسكرية والدبلوماسية والاستخبارية، بالإضافة إلى الموقف المناهض الذي تعبر عنه الكتل الديمغرافية الشيعية (اثنى عشرية، وإسماعيلية، وزيدية) والتي يتصل جزء منها وجدانياً وتمويلاً مع حرب الحوثيين المدعومة إيرانيا في اليمن، وعليها أن تواجه هذا الخطر بإجراءات حازمة لكن عادلة، وتتوخى في المقام الأول تعزيز قيم المواطنة والشراكة.
وبقي أن نشير إلى أن العلاقات اليمنية السعودية تأسست على القواعد التي تضمنتها معاهدة الطائف المبرمة في آذار/ مارس من عام 1934، والتي تنازل بموجبها الإمام الزيدي يحيى حميد الدين (حكم اليمن الشمالي من 1918-1948) عن نجران وعسير وجازان مقابل علاقات تكاملية لا تضع حدوداً أمام تنقلات المواطنين من البلدين؛ يبدو أنها تتقوض بشكل كامل، استناداً إلى ما يواجه اليمنيين في المملكة. فبعد أن خضعوا منذ تسعينيات القرن المنصرم إلى قواعد العبودية المقنعة عبر نظام الكفيل، ها هم يواجهون ما هو أسوأ، وهو الطرد القسري المقرون بالازدراء.
* نقلا عن عربي21