يأخذون على الربيع العربي أنه "فشل" لأن شروط نجاحه كثورة لم تكتمل ، والبعض الآخر يرى أنها لم تتوفر .
فبينما يقتصر حديث البعض الأول عن القصور في الجانب الذاتي مثل غياب "أداة الثورة" بمفهومها التقليدي الذي شكل شرطاً لوحدة الثورات في أحسن الأحوال ، فإن البعض الآخر يتحدث عن الجانب الموضوعي ، والمتعلق بنضج الحياة السياسية والاجتماعية التي تشكل البيئة الحاضنة للثورة ، من منطلق أن هذه المجتمعات لم تكن في حاجة الى ثورات وإنما إلى إصلاحات خفيفة ، وربما كانت ,من وجهة نظرهم , مثالية لا تحتاج إلى أي إصلاحات .
وهناك ما يمكن قوله كتعليق على ذلك :
أولاً : إن الذين يتحدثون عن الشرط الذاتي هم أقرب إلى الثورة ، لكنهم لم يروا في الربيع ثورة لأن المعايير النظرية للثورة عندهم مختلفة ، ولم يحدث أن شهد العالم العربي تجارب من هذا النوع تجعلها جزءاً من الميراث الثوري . لكن المغالاة بالحديث عن الفشل بسبب غياب " الأداة الثورية" بالمفهوم التقليدي يضع هذا المنطق تحت المساءلة من زاوية أن " الأداة الثورية" لم تكن السبب في نجاح القليل ، والقليل جداً ، من الثورات ، وإنما الأدوات المستخدمة وهي السلاح . والثورات التي نجحت بالسلاح سرعان ما ارتد هذا السلاح إلى صدرها ، ومن نفس " الأداة الثورية" ، أو من غيرها ، أو بتحالفات عكست مستجدات الحياة .
ثانياً : الذين يتحدثون عن الجانب الموضوعي المتمثل كما يقولون في غياب الاستجابة المجتمعية للتغيير الثوري فغالباً ما يكونون من المؤيدين للأنظمة السياسية والاجتماعية الحاكمة ، أو كانوا جزءاً من بنيتها . وهؤلاء يستدلون على غياب الشرط الموضوعي من واقع ما عاشوه هم ، لا من واقع ما كان المجتمع يعيشه . والجدال معهم يقوم على حقائق تاريخية من واقع من شكلته مآزق أنظمتهم من " أزمات ثورية" كان لا بد أن تدفع بثورات شعبية تنطلق من قلب المجتمع تطالب التغيير السلمي ، وهو مطلب أقرب إلى الإصلاحات العميقة منه إلى الثورات المعروفة بالعنف .
ثالثا : لا يقول لنا هؤلاء جميعاً شيئاً عما حققته الأنظمة التي صادرت "الثورات العربية" من نتائج أو منجزات على الأرض حتى يكون نقدهم للربيع العربي مبنياً على حقائق يستدل منها على أن الربيع كان فائضاً عن الحاجة المجتمعية . فلو أن هذه الثورات نجحت لما تشكلت تلك الشروط التي أشعلت ثورات الربيع العربي . كل ما عملته الأنظمة التي نهبت تلك الثورات هي أنها تصالحت مع التخلف الذي ثارت عليه ، واستسلمت لشروطه في السماح لها باستمرار علمها ونشيدها ، ولذلك استمرت أنظمتها سنوات طويلة . لقد كان الربيع دعوة لإحياء تلك الثورات .
والفرق بين هذه الثورات وبين الربيع العربي هو أن أنظمتها صمتت عن الدولة الوطنية المدنية ، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية ، وحق الناس في تقرير خياراتهم السياسية ، بينما أفصح الربيع العربي عن الحاجة الى دولة المواطنة المدنية والديمقراطية التعددية ، وهو ما استفز حراس تكوينات ما قبل الدولة ، وكل المنتمين إلى "الدولة" النائمة بهدوء في حضن تلك التكوينات التقليدية المتصالحة كلها حول مسألة واحدة وهو أنه " لا دولة" .