في غرفة التجهيز بأحد المستشفيات باليمن تتجهز أمي لإجراء عملية جراحية حتمية، بعد معاناة طويلة مع المرض.
حضر الممرضين، وأجروا اللازم، وبانتظار وصول الطبيبة للبدء بالعملية.
تذرف أمي دموعها، ليس خشية من العملية الجراحية، فقد سلمت أمرها لبارئها، ولن يخذلها الرحمن، لكنها دموع القهر والفقدان والحسرة، لا أحد من أبنائها الكبار ترتيبا يقف إلى جوارها في اللحظة التي تريد، تلك اللحظة التي يشيب فيها الرأس، ويُنهك الجسد، وتصبح الحاجة ماسة لإبن يواسي الأم أو الأب.
مواساة كتلك التي كانت تفعلها الأم لأبنائها وهم صغار، والمرض ينهش أجسادهم، فيتغلبون على تلك الآلام بحنان الأم، وفؤادها الكبير، وإحساسها الفطري الأمومي بمعاناتهم.
لايوجد شيء أكثر ألماً من إحساس أم أنها بلا أبناء يقفون إلى جوارها في اللحظة التي تريد، ليس لأنها لم تنجب، بل ويا للأسف لأن من أنجبتهم غير موجودين في حياتها، اختطفتهم الدنيا، وفرقتهم الأقدار، وانتزعتهم المشيئة الإلهية من محيطها، وقذفت بهم إلى عالم بعيد، بعيد لدرجة الوحشة، لدرجة الإقرار قهرا أنك لان تعود، بعيد عن تلك اللحظة حيث تمتزج الأجواء برائحة أمك، وأنفاسها، وضحكاتها، وتعابيرها، وحزنها، وسرورها.
إنها حقا ميتة صغرى، بل أولى درجات بلوغ الموت، وأنت لا تستطيع فعل شيء، وتبدو كأنك مبتور الأقدام والسواعد، ولم يعد لك سوى بقايا روح بالكاد يصدر منها صوت مبحوح تعبر فيه فقط عن مدى ألمك وحرقتك، من روح مطفأة من الحياة، مشتعلة بالقهر، الذي يكتسحها ويغمرها حد الغرق.
صبرا أمي
إني بعيد عنك بآلاف الكيلومترات، لكنني قريب منك، قريب بروحي، ومشاعري، أقف معك بذات الغرفة، وأمسك بيديك، وأخفف عنك، وسأحضنك قبل دخولك لغرفة العمليات، وسأنتظرك عند بوابة الغرفة مرة أخرى، لأكون أول من ينظر في عينيكِ، وأول من يقول لك: "الحمدلله على السلامة".
معذرة أمي
أشعر بيدك الدافئة الآن وهي منقبضة تبحث عني، وتود أن تلامس يدي، أشعر بعينيك تلفان أرجاء الغرفة، لعل عامر يطرق الباب الآن، ليدلف إلى جوارك، ويصبح بقربك، أشعر بقدميك وهي لاتقوى على حملك، ليس من ضعف البدن، بل من إنهاك الروح، أشعر بفؤادك المكسور حزنا على نفسك، وأنتي تعيشين اليوم وحيدة، بلا أبناء.
معذرة أمي
ليس لي من الأمر شيئ، سوى هذا الخيال المرير، والمخادع للنفس، فأنا الآن في مكان بعيد، يضيق بي، وبات كاللحد، عاجز لأول مرة، وأعلنها بمرارة أني معترف بعجزي، وعدم قدرتي على فعل شيئ لك ولأجلك، كما تريدين، وفي الوقت الذي تريدين.
صبرا أمي
ستعودين إلينا بكل عافيتك، وسيأتي اليوم الذي نلتئم فيه من جديد، لنصبح أزهارا مرة أخرى في محرابك، وتظلين كما أنتي مصدر ضوء لنا في الحياة.
