أضافت وثائق "بنما" إلى اليمنيين غمًّا جديداً. رجال صالح يتصدرون الواجهة السوداء، طبقاً للتقرير الذي أعده "العربي الجديد" خلال الأيام الفائتة. في العام 2016 يقف اليمنيون على حافة الهاوية: الجمهورية المفككة، والبلد المُفقَر، والمجتمع المنقسم أفقيًّا. فوق هذا الخراب الأبوكاليبسي يجلس أبطال "بنما" من رجال صالح بحساباتهم المالية الخرافية التي تفسر، عمليًّا، سر الفقر المدقع في بلد يفيض بكل فرص الثراء. الذين صنعوا الفقر عادوا وصنعوا الحرب.
اليمن هو أكبر بلدان الجزيرة العربية من حيث السكان. وهو بلد الجبال والصحارى والبحار والوديان، والجزر. كانت، حتى ما قبل هذه الحرب الأخيرة، تراوح مكانها ضمن الدول العشرين الأكثر فشلاً في العالم، لكنها الآن غادرت تلك القائمة الحرجة كلياً وسلكت طريقاً آخر. انهار مشروع الدولة مع بزوغ نجم الحرب الداخلية، وتفكك الشعب اليمني إلى شعوب يمنية في الجنوب والوسط والشمال، وشعب في المهجر بلغ حتى العام 2009 زهاء سبعة ملايين طِبقاً لبيانات وزارة التخطيط المنشورة في حينه.
تاريخيًّا: اندلعت حرب بين الشمال والجنوب مطلع الثمانينات بعد جولة ممتدة من الحوار. وحدثت حرب 94 بعد حوار كثيف انتهى بتوقيع وثيقة "العهد والاتفاق" في الأردن. أما الحرب الأخيرة فاندلعت بعد أكبر موسم حوار في التاريخ اليمني اشترك فيه 565 شخصية، وبرعاية أممية وعربية.
على الدوام كانت هناك قوى محلية جاهزة لخوض غمار الحرب مستندة لما توفر لها من شبكة اجتماعية متماسكة وخبرة تاريخية في كسب الحروب الداخلية، وعلى كون اليمن بلداً يقع خارج اهتمام العالم وبمقدور المرء أن يعبث فيها كما يشاء.
خلال الثلث قرن الأخير حدثت أربعة حروب كبيرة كان صالح طرفاً رئيسيًّا فيها، إذا ما اعتبرنا حروب صعدة الست حرباً واحدة. لقد شارك الرجل، بفاعلية، في إشعال كل الحروب. أما مدونة تاريخ اليمنيين المعاصرة، فتقول إنه كان الطرف الذي يجهز القوة العسكرية قبل أن تنتهي دورة الحوار. البلد الذي بالكاد وجد له مكاناً ضمن الدول الأكثر فشلاً كانت تكفيه أزمة سياسية واحدة لتعصف به بالكلية، لكنه نال أكثر من ذلك. اختفت السياحة والاستثمار وتوقفت السقالات على نحو مبكر واشتعلت النيران. وبدلاً عن أن يعمل نظام صالح على خلق الوظائف فإنه فتح للقبائل سوقاً لبيع أبنائها كمحاربين بحسب لون المعركة.
فقبيلة "حاشد" قاتلت صالح في صنعاء، إبان ثورة 2011، لكنها الآن تقاتل معه ضد الذين قاتلت إلى صفهم قبل وقت قصير. يوجد يمنيون كثيرون يكيلون المدائح لصالح بوصفه الرجل الذي يكسب المعارك، متناسين وظيفته الأساسية كرئيس للجمهورية سابقاً، وزعيم حزبي حالياً: أن يحول دون نشوء الحرب. بمقدور أي شخص إشعال حرب بأقل قدر من الشروط، وليس في ذلك من مجد. هذه البديهية متناهية الصغر صارت بالنسبة لجيل واسع من اليمنيين بعيدة المنال.
على مشارف ربيع 2016 يقف اليمنيون غرباء وعزلاً أمام العالم، بلا مشروع للدولة ولا سلم أهلي، وبأقل الفرص الممكنة للنجاة. إنهم أصحاب الأخدود الجُدد، أشعلوا النيران في أنفسهم وملأ الدخان النفق، وما من ضوء. مشهد خروج الجماهير في صنعاء، أواخر مارس الماضي، لتجدد وفاءها لقائدي الحرب الأهلية صالح والحوثي كان صادماً ومحيراً. فبينما تسقط اليمن إلى القيعان كدولة ومجتمع وتاريخ يخرج مئات الآلاف لتحية مهندسي الحرب. لم يكن الأمر مجرد تحية كرنفالية، فالأيام التالية شهدت زيادة مطردة في وتيرة الحشود العسكرية.
في العام الذي سبق الحرب عملت منظمة شابة، مقرها في عدن، على إحصاء الأخبار السيئة حول اليمن فوجدتها 400 ألف خبر سيئ في عام. في العام التالي حدثت الحرب، ولا غرابة.
إذا كان، راهناً، من خبر جيد يطلع من اليمن فهو أن اليمنيين قرروا خوض جولة جديدة من الحوار. ما ليس جيداً هو أن حروب اليمنيين غالباً ما تحدث بعد الحوار، أو تزداد وتيرتها. بعد موافقة الحوثيين على الذهاب إلى الكويت ألقت البحرية الدولية على عدد من سفن السلاح كانت في طريقها للحوثيين. بالموازاة قال قائد الحرس الثوري الإيراني، في اجتماع القادة بمناسبة السنة الإيرانية الجديدة، إن دولته ستجعل السيف الحوثي أكثر مضاءً في المستقبل، ووعد باستخدامه في عقاب السعودية. لا ضوء في نهاية النفق، وفي الظلام أمة تائهة وجدت نفسها في القاع وراحت تحفر أكثر.
تدور العجلة التاريخية اليمنية بالآلية نفسها، وتحدث حروب ما بعد الحوار لأن طرفاً رئيسيًّا يستمر في تجهيز جيوشه ونصب المتاريس بالتوازي مع حديث النوايا الحسنة.
على أن الحقيقة المرة هي تلك التي تقول إن قادة العصابات، مثل صالح والحوثي، بمقدورهم خوض حرب داخلية لسنين طويلة، ففي المجتمعات الفقيرة يستطيع المرء الحصول على مقاتلين، لأن الرجال المحتاجين هم مرتزقة جيدون. الخلاصة نفسها ذهبت إليها الباحثة الأميركية ـ الأرمنية "شيلاغ واير" في عملها الذي أنجزته في اليمن "تراتب قبلي، القانون والسياسة في جبال اليمن". وإن كانت ثمة من معادلة رياضية يمكن أن تقترب من المشهد اليمني الراهن أكثر من غيرها فهي تلك المقولة التي تزعم أن اليمن مثل تاكسي معطوب لا يمكن فتحه سوى من الخارج.