النزق الخليجي أنتقل إلى اليمن منذ زمن طفرة النفط فقط، أما الإهتمام باليمن فإنه ظهر بعد قدوم جيش مصر إليها في الستينيات، ولكن نسبة هذا الإهتمام قد زادت بعد 2011، كانت اليمن ومازالت تصدر الخير إلى كل الخليج، ترسل إلى هناك أهم ما لديها من ثروة; وهي الأيدي العاملة التي نقشت حضارة الإسمنت في مدن الخليج بأظافرها، ناهيك عن إرسالها العسل والبن والفاكهة .. تالياً وبسبب كل الأحداث الأخيرة يطرأ السؤال هل اليمن جزء من الخليج بكل دوله اليوم أم أن الخليج جزء من اليمن؟
الأيدي العاملة التي مازالت تتقاطر إلى الخليج من قرى و مدن اليمن تذهب بأصالتها و عفويتها و طيبة الفلاحين و أخلاق الحضارات المتعاقبة على مدى أكثر من عشرة آلاف عام، نقلت الهجرات المتأخرة إلى دول الخليج الفن و التراث اليمني و نقلت الخبز و أطيب ما في المطبخ اليمني الأصيل، يعود الذاهب إلى الخليج و قد زال غباره، و قد ترك فوطته و معوزه و بنطلونه، يعود و قد اختلفت لكنته، ونسي الكثير من عادات قومه، وزاد نزقه وهذيانه وهرجه، ويبدو أن الحضارة الإسمنتية الجديدة قد أصابت فكره وتربيته القروية، كما تفعل الحضارات المختلفة.
الصورة ليست قاتمة للدرجة التي يريد أن يتصورها البعض، لكنها تظل مشوشة بسبب السياسيات هنا و هناك، فالنفط له أثره على التفكير، ويبدو أن الإنسان كلما زادت قدرته الشرائية قلت عنده القدرة على العطاء الفكري و القيمي، فللمال حساباته، و مع ذلك فتحويلات المغتربين حافظت على الاقتصاد اليمني من الركود وانعشته منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن اليمن فقط ترسل إلى الخليج عمالة ( محدودة ) التعليم لتعمل في مناطق و مؤسسات و شركات لا تقوم بتطوير أداء الفرد ولا ترفع مهاراته ولا تساهم في تعليمه نتيجة لظروف و طبيعة الأعمال الدُنيا التي تعمل بها الكوادر اليمنية، و حتى الفئة العاملة الضئيلة و المحدودة التي لديها شهادات عليا و تعمل في حقول التعليم أو الوظائف الكبرى، لا تتطور و لا تتحول من عمالة منتجة إلى عمالة مبدعة، إذن حالة الخليج تنعكس على العمالة وعلى اليمن بشكل أو بأخر.
حرب الخليج الثانية أعادت إلى اليمن قطاعات واسعة من المغتربين كان بإمكانهم إحداث نهضة نوعية في اليمن، لكن اليمن كانت تعيش في زمن الحكم عبر شبكة الفساد، حاولت تلك العمالة عبر قدرتها المحدودة على النهوض بالعديد من المدن اليمنية وشكلت نهضة عمرانية غيرت شكل العديد من المدن من ما بين عامي 1991 و 1994 حيث حلت الحرب الأهلية في اليمن و حالت دون النهوض الذي بدأته العمالة العائدة من الخليج، لقد أفسدت السياسية الأمر و زاد عدد الفقراء بشكل مُطرد، لقد مثل عدم وجود الاستقرار السياسي ضربة في عمق الاقتصاد الهش الذي انخفض كنتيجة لتناقص مقدار التحويلات المالية بسبب عودة العمالة.
ثم شهدت السنوات اللاحقة و الممتدة من 1994 – 2004 تحولاً على مستوى اليمن و الخليج، تم استقطاب العمالة الشابة طائفياً و زج بهم في معسكرات انتقائية، وتكونت البؤر و الخلايا النائمة التي انقضت على اليمن في 2014 واعلنتها حرباً إقليمية انطلاقاً من الأراضي اليمنية، و ها هي تهدد عبر المجلس السياسي لمليشيات الهاشمية السياسية بضرب الملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر، ووصلت صواريخها إلى الرياض.
ما يجري اليوم في اليمن هو نتيجة لسياسات خاطئة يمنية و خليجية تم ممارستها ضد الشعب اليمني و المستفيد الوحيد من كل ذلك هي إيران الطائفية، فشعب فقير يناهز عدد سكانه 30 مليون نسمة سيخرج جيوشاً تجتاح المنطقة كلها، ولن تكون إيران محتاجة إلى إرسال جنودها إلى أبو ظبي و لا إلى الرياض، هذه الحسبة الإيرانية لم تخطر على بال أحد، لكنها خطرت على بال الخميني في الثمانينات عندما سمع أن هناك جنوداً يمنيين ارسلتهم الجمهورية العربية اليمنية (التي يحكمها الزيود) للمشاركة مع العراق لصد الثورة الإسلامية من الانتشار في المنطقة، فأعاد النظر وبدأت تواصلات الملالي سراً وعلانية حتى أعلنت طهران في صبيحة 22 سبتمبر 2014 أن صنعاء العاصمة الرابعة التي سقطت لمصلحتها في المنطقة.
من الذي يواجه إيران اليوم في اليمن؟ كل من يرفضون الطائفية ويؤمنون باليمن دولة و هوية و شعب، و كل من لديهم وعي سياسي، و لديهم تطلعات لمستقبل أفضل، وللأسف أسندت القوى الطائفية بكل من لديهم تحفظات على القوى اليمنية المحافظة على كينونتها اليمنية ممن وجدوا في مليشيات الهاشمية السياسية فرصة للنيل من خصومهم السياسيين ممن لا يفقهون معنى الطائفية و خطورتها، وتخلوا عن ثوريتهم و قوميتهم لأجل شيكات إيران و رحلات خاصة ساقتهم إلى الضاحية الجنوبية امتدت من 2012 – 2014.
إن الوعي السياسي في اليمن هو نتاج لحراك المجتمع اليمني الممتد عبر القرون، ارتفع هذا الوعي و انخفض بحسب الظروف والمحطات التي مرت بها اليمن و المنطقة، اشتعل هذا الوعي منذ 1918 عندما تركت تركيا الحكم و أُعيد تقسيم المنطقة بحسب خرائط الاستعمار، هذا الوعي اشتعل بقوة في 1948 في الثورة الدستورية، عندما قامت النخبة بثورتها والتي تأخر نجاحها إلى 1962، خفت الوعي السياسي في مراحل لاحقة نتيجة لصراع القوى اليمنية مع القوى الملكية المتدثرة باليمن وبالحركات السياسية منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن الوعي السياسي الذي أحدثته ثورة 11 فبراير لم يكن مسبوقاً، وما انطلاق الثورة من الجامعات اليمنية إلا دليلاً على ارتفاع نسبة الوعي.
منذ انطلاقتها في تسعينات القرن الماضي أحدثت الجزيرة ثورة سياسية في المنطقة غيرت وجه الإعلام العربي وانقذته من سمعته السيئة، إعلام توزع بين الجمود والملل و الدين و المراقص على الهواء، ملّ الناس من الإعلام فكانت الجزيرة هي نافذة العربي الوحيدة التي يطل منها على العالم ويتعلم حقائق عن الصراع العربي الاسرائيلي و غيره من الصراعات في العالم، ومن تغطيات حرب أفغانستان بعد 11 سبتمبر إلى تغطية الحرب الأمريكية المفتعلة مع العراق و التي كان محركها مال النفط العربي و المستفيد منها إيران الطائفية، كانت الجزيرة هي من تنقل الصورة بوضوح، كان نضج الجزيرة واضحاً في الربيع العربي عندما انحازت للشعوب فجن جنون الأنظمة المتبقية من أزمنة الضياع، أجزم هنا أن الجزيرة قد أسهمت في ارتفاع منسوب الوعي السياسي في اليمن، وفي تعز بالذات حيث تقطن الكتلة العظمى للوعي الثقافي والسياسي و التي انطلقت منها ثورة 11 فبراير، وكانت الجزيرة حاضرة لتغطية كل أحداث الثورة.
وبرغم المنافسة الإخبارية من قبل بعض القنوات ظلت الجزيرة في الصدارة بالنسبة للمتلقي اليمني والعربي، و فتحت النوافذ الجديدة ليصبح المواطن الصحفي مشاركاً في صناعة الخبر و الرأي و التحليل، و العرب منذ نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن لم ينتجوا سوى الربيع العربي، والجزيرة كانت الحامل الإعلامي لهذا الربيع.
ومع تواجد الجزيرة في اليمن سلطت الأضواء على مكامن الخلل وعوامل النهوض، لم تذهب الجزيرة لتسفيه الشعب اليمني ولا إلى الترويج لخزعبلات تقسيم اليمن سياسياً وطائفياً، ولم تدع ملكية قطر لأي جزء من اليمن، كما تفعل بعض القنوات المنافسة للجزيرة، التي تتحدث بنزق عن سقطرى وغيرها بلغة الشعور بالنقص، من يريدون إثبات أن لهم جذوراً تاريخية في سقطرى أو المهرة أو غيرهما من المناطق اليمنية، فليعودوا للتاريخ البعيد والقريب، ليتذكروا أنهم عرب و اليمن منبع العروبة و العرب، تعالوا نقتسم الهموم والتاريخ المشترك لكن بدون التقول الشعوبي الأقرب إلى الوهم فمعظم شعوب المنطقة ما هم إلا هجرات يمنية، فلا داعي للادعاءات الفارغة، التي لا يصح منها شيء، وخاصة وأن الشعب اليمني اليوم يخوض معركة هوية ووجود مع الهاشمية السياسية، في ظل تراخي التحالف عن تبيين هذا عبر وسائل الإعلام التي تتعامل بسطحية مع القضية اليمنية، وحتى الجزيرة لم تخض في عمق القضية اليمنية وجذورها التاريخية و لم تسلط الضوء على الهاشمية السياسية في اليمن، كما سلطتها على قضايا أقل شأنا و أهمية، اليمن اليوم في مأزق حقيقي بين حلفاء يديرون المعارك بنزق وبين أعداء يحاولون التلبس بكل ما هو يمني و محاولة طمسه، لكن الجزيرة سلطت الضوء على أطماع بعض دول التحالف في سقطرى و غيرها و لذلك قرر التحالف اغلاق مكاتبها في اليمن وليس في تعز وحدها.
اغلاق مكتب الجزيرة في تعز مدينة الثورة والوعي والحرية له دلالته، هناك حراك سياسي في اليمن يجب أن يعزل عن العالم، ولكن هذا لن يحصل لا الوعي سيعود إلى الخلف و لا الجزيرة توقفت و لا الناس ستقبل بنظام إعلامي و سياسي أحادي الاتجاه، المواطن صار سياسياً واعلامياً و مكتبه في كفه لا يحتاج مكاتب و لا اقماراً صناعية للبث، تراجع هذا المواطن إلى أزمنة ما قبل الحرية مستحيل، بفضل الإعلام الجديد لا يمكن صناعة دولة قمعية و لا عودة الشمولية ولا سيطرة للكهنوت الديني، الحرية هي مناط أي وعي وحراك سياسي وهي الهدف الأسمى للناس، ولذا فإن عبث اغلاق مكتب إعلامي أو مضايقة الإعلاميين سياسة فاشلة لا تجدي نفعاً.
قد نناقش ضعف وقوة محتوى الإعلام و أداء وسائل الإعلام قاطبة، لكننا لسنا حمقى لنناقش حرية الرأي والتي تنبثق عنها حرية الإعلام، فما ضحى به شعبنا من دماء لترتوي شجرة الحرية لا يمكن لعسكري أو مدني أن يفسده بطقم أو طقمين من "المفصعين"، والوضع الخاطئ لن يستمر، ومصادرة حرية الإعلام ما هي إلا من مخلفات الأنظمة التي اسقطتها الشعوب، ولن تقبل بعودتها من جديد.
* خاص للموقع بوست