أثارت الهزيمة السريعة والنهاية التراجيدية للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح اندهاش الكثيرين، الذين لم يكونوا يتوقعوا حدوث ذلك؛ ويرجع السبب إلى قصة زائفة ومغلوطة حول دور صالح في سقوط صنعاء وما سبقها ولحقها من أحداث. فوفقا لهذه القصة فإن صالح هو المخطط الرئيسي للحوثيين، وأنه كان الداعم الأساسي لهم ومن ثم فإنه كان المسؤول الأول عن سقوط صنعاء وتمدد الحوثيين وسيطرتهم على مؤسسات الدولة ومناطق اليمن.
فصالح وفقا لهذه القصة حشد القبائل للحوثيين ومدهم بالسلاح والمقاتلين وسلم لهم معسكرات الجيش ومخازنها ومؤسسات الدولة الأخرى، وسهل لهم السيطرة على معظم مناطق اليمن، وأصبح شريكا معهم في حروبهم العديدة ضد الخصوم المحليين والخارجيين. وما جعل هذه القصة تبدو حقيقية أن هناك جزءاً صحيحا منها، إلى جانب أن صالح وأنصاره لم يفندوها علنا، وساهموا في ترويجها.
والجزء الصحيح من القصة أن صالح كان خلال المرحلة التي تلت خروجه من السلطة يريد أن يستعيد السلطة بشكل أو آخر، أو المحافظة على ما كان لديه من سلطة ونفوذ، كما أنه كان يريد أن ينتقم من خصومه الذين أطاحوا به، وإضعاف مراكزهم السياسية والعسكرية التي كانت تتم على حسابه. وعندما بدأ الحوثيون بالتحرك من معقلهم في صعدة ساهم صالح في تحريض أنصاره من القبائل والعسكريين بعدم مواجهتهم ومساعدتهم في هزيمة خصومه، وهذا السلوك منه كان طبيعيا ومتوقعا حيث أنه لم يكن لديه من مصلحة لأن يساعد خصومه المباشرين والذين كانوا يشكلون تهديدا حقيقيا له في صنعاء حين كانوا يطالبون بمحاكمته وتجريده من كل ما تبقى له من سلطة ومال ونفوذ.
وعلى هذا الأساس كان هؤلاء أشد خطرا على صالح من الحوثيين والذين كانوا في ذلك الوقت يمدون الجسور معه ويعلنون أنهم يستهدفون خصومه فقط، وبالتالي فإن الحوثيين خلال تلك الفترة كانوا بالنسبة لصالح بمثابة حلفاء مرحليين وخطرا آجلا مقارنة بخصومه في صنعاء والذين كانوا يشكلون خطرا عاجلا وداهما. وعليه، فإن صالح ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تمدد الحوثيين وتقوية مراكزهم نكاية بخصومه قبل سقوط صنعاء واتقاءً لشرهم بعد سقوطها.
والجزء الرئيسي من القصة والذي تم اخفائه في وسائل الإعلام يتعلق بدور الرئيس هادي في تمكين الحوثيين من السيطرة على الدولة اليمنية، فهادي القادم من الجنوب، والذي لم يكن يمتلك القدرة على حكم صنعاء، كان مركزه السياسي مهددا بتصالح الطرفين الرئيسيين اللذين تصارعا على الحكم في 2011 فيما سمي بالثورة، وهما الرئيس صالح وحزب الإصلاح وحلفاؤه العسكريون بزعامة الجنرال علي محسن الأحمر والقبليون بزعامة أبناء الشيخ عبدالله الأحمر، وفرصة مصالحة هؤلاء كانت كبيرة بالنظر إلى القواسم المشتركة التي تجمعهم؛ حيث أنهم ينتمون إلى مكون اجتماعي وجغرافي واحد.
وكانت المبادرة الخليجية من أهدافها إجراء مصالحة بين الأطراف المتصارعة عبر حوار يشرف على إدارته الرئيس هادي، فدور هادي الأصلي، وفقا للمبادرة كان يتمثل في إدارة حوار وطني ينتج عنه تصالح (صالح) وخصومه؛ غير أن هادي قام بعكس الدور المرسوم له في المبادرة، وبدعم واضح من أطراف كثيرة وخاصة الحزب الاشتراكي وغيره من القوى التي قامت بالثورة، والتي كان لديها أجندة لاستغلال تلك الثورة لإحداث تغيير جوهري في تركيبة الدولة ونظام الحكم.
وكانت تلك القوى ترى أن أي تصالح بين صالح وخصومه يعني عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة، واستمرار هيمنة القوى نفسها التي كانت تسيطر على السلطة قبلها بصيغة جديدة. ولهذا سعى هادي وتلك القوى إلى منع تلك المصالحة بأي طريقة، وليس هذا وحسب بل إلى إضعاف صالح وخصومه بكل الوسائل، وكان الحوثيون هم أحد تلك الوسائل.
والحوثيون من جانبهم لديهم مصلحة مباشرة في ضرب وإضعاف صالح وخصومه، وهم في الأصل خصومهم السياسيون والإيديولوجيون، وعقبة أمام تمكنهم من الحكم. ووفقا لذلك التقت المصالح والأهداف بين الحوثيين وهادي والقوى التي ذكرناها، وأصبحوا حلفاء طبيعيين. وقد استفاد الحوثيون من ذلك الحلف، الضمني أو الفعلي، حيث قامت تلك القوى بتعبيد الطريق أمام الحوثيين ليتمدد من صعدة وحتى صنعاء، وكان العامل الأساسي والحاسم في ذلك، هو قيام الرئيس هادي بمنع قوات الجيش والأمن، باستثناء القوات التي كانت محسوبة على الجنرال علي محسن الأحمر، من القيام بواجبها في التصدي للحوثيين، الأمر الذي جعل الحوثيين يقضمون الأراضي والسكان بكل أريحية ودون عناء يذكر.
وكانت النتيجة من كل ذلك أن الحوثيين وجدوا الدعم من الرئيس الفعلي هادي، الذي كان يمتلك السلطة القانونية، والرئيس السابق صالح الذي كان ما زال يمتلك النفوذ في الكثير من مؤسسات الدولة، ومن الكثير من القوى المحسوبة على الثورة، والتي قدمت للحوثيين الدعم السياسي والإعلامي. ولم يقتصر الأمر على القوى المحلية بل أن المبعوث الأممي السابق جمال بن عمر قدم هو الآخر الدعم للحوثيين بعد أن تماهى مع رؤية الرئيس هادي والقوى الثورية الهادفة لإضعاف صالح وخصومه عبر استخدام الحوثيين أداة لذلك الغرض.
غير أن الحدث الذي خلط الأوراق وأربك هادي وصالح وبقية القوى، هو انهيار حزب الإصلاح بشقيه القبلي والعسكري عند أبواب صنعاء وانسحابهم من المعركة بأسرع مما كان متوقعا، وهو ما منح الحوثيين نصرا سهلا ومكنهم من السيطرة على مفاصل الدولة اليمنية بكل أريحية ودون تكلفة تذكر. فحين انسحب الإصلاح من المعركة لم يعد هناك من طرف لديه الرغبة وربما القدرة على مواجهة الحوثيين؛ فالرئيس هادي الذي منع الجيش من قتالهم حين كانوا بعيدين عن العاصمة وأثناء حصارها لم يكن راغبا وربما غير قادر على الدخول معهم في معركة. فيما صالح لم يكن هو الآخر راغبا أو قادرا على مواجهة الحوثيين في صنعاء خلال تلك الفترة. فصالح رسميا لم يكن لديه أي سلطة قانونية تخوله أن يأمر قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي وغيرها من القوات ليحاربوا الحوثيين. كما أن تلك القوات لم يعد على قيادتها أفراد من أسرته أو حتى حلفائه، بعد أن أبعدهم الرئيس هادي وعين مكانهم خصوم صالح أو من لا يدينون له بالولاء.
إضافة إلى ذلك؛ كان صالح يدرك بأنه مستهدف من الرئيس هادي والحوثيين والقوى التي قامت عليه بالثورة (حزب الإصلاح، وأحزاب المشترك) والمبعوث الأممي بن عمر والسفراء الأجانب. فأي تحرك من قبله ضد الحوثيين كان سيفتح عليه جبهة واسعة من الأعداء أهمهم رئيس الجمهورية والحوثيين، والعالم الخارجي، وبالتالي لو حاول مواجهة الحوثيين بعد دخولهم صنعاء كانت هزيمته مؤكدة، وكان سيعرض نفسه للمحاكمة وربما القتل بطريقة أسوأ مما حدث له، وكانت مواجهته ستبدو عارية من أي غطاء سياسي أو أخلاقي أو قانوني، وخروجا عن الإجماع الظاهري الذي بدأ مع توقيع القوى السياسية لما سمي وثيقة السلم والشراكة الوطنية في ليلة سيطرة الحوثيين على صنعاء. وكان الحل الوحيد المتاح أمام صالح، هو إظهار التحالف مع الحوثيين الذين كانوا هم أيضا محتاجين له مثلما كانوا محتاجين لغيره كالرئيس هادي ليتمكنوا من بسط سيطرتهم على الدولة ومؤسساتها. كما أن الحوثيين من جانبهم تجنبوا إظهار العداء لصالح وقاموا بخطوات تشير إلى أنهم أقرب له من القوى الأخرى (الرئيس هادي، وحزب الإصلاح) فبعد دخولهم صنعاء قام صالح بزيادة نشاطه السياسي، وأعاد تشغيل قناة «اليمن اليوم» الذي كان هادي قد أغلقها عليه قبل ذلك.
ونتيجة لذلك؛ بدا صالح مستفيدا من دخول الحوثيين صنعاء وهو ما ساعد على ترويج القصة التي تقول أنه من قام بمساعدتهم عسكريا وسياسيا على سقوط صنعاء، وأن ما حدث هو أن الحرس الجمهوري ارتدوا زي الحوثيين وفتحوا للحوثيين أبواب المعسكرات وسلموهم الأسلحة، وأن الحوثيين ليسوا سوى قفاز خشن يستخدمه صالح لضرب خصومه، ومن ثم سينقلب عليهم ويخرجهم من صنعاء بالطريقة التي أدخلهم بها.
وقام بترويج هذه القصة خصوم صالح وأنصاره؛ فخصومه كالرئيس هادي وفريقه أرادوا من وراء ترديد تلك القصة التنصل من مسؤوليتهم عن جريمة سقوط صنعاء، والتشهير بصالح لدى السعودية ودول الخليج، وحزب الإصلاح أراد أن يبرر هزيمته السريعة أمام الحوثيين وإظهار الأمر وكأنه قد تعرض لحرب شاملة من الحوثيين وقوات الحرس الجمهوري؛ فيما صالح وأنصاره راقت لهم القصة لأنها تظهرهم بمظهر الطرف القوي الذي يجعلهم قادرين على التحكم بخطوط اللعبة، ومن ثم استثمارها سياسيا بإعادة صالح إلى السلطة.
والحقيقة التي أكدتها الوقائع أنه لم تحدث أي مشاركة واضحة من قوات الحرس الجمهوري أو الأمن المركزي أو غيرها من القوات التي كانت محسوبة على صالح في المعارك التي سبقت سقوط صنعاء، على الرغم من أنه لا يستبعد حدوث مشاركة لبعض أفراد من الحرس الجمهوري وغيرهم إلى جانب الحوثيين بعلم صالح وإرادته أو بدونها.
كما أن أبجديات السياسة وبديهياتها تؤكد أن الحوثيين الحاملين لمشروع سياسي خاص بهم، لم يكونوا يقاتلون خدمة لصالح وتنفيذا لرغبته، وتعزيزا لسلطته، وهو العدو الذي خاض معهم معارك ضارية وقتل زعيمهم. وبالمثل لم يكن صالح من الغباء ليسلمهم السلاح الذي كان بحوزته بشكل طوعي، كما تم ترويجه، فالسلاح لا يُـسلم في بيئة كاليمن لحليف فكيف هو الحال بعدو مفترض في أحسن الأحوال؟
وخلال الفترة التي تلت سقوط صنعاء خدمت الظروف الحوثيين؛ حيث أصبحوا الطرف الأقوى ليس بكثرتهم ولكن بتماسكهم وسيطرتهم المباشرة على مفاصل الدولة وصراع خصومهم، الأمر الذي جعلهم يسخرون الجميع لمصلحتهم ومن بين هؤلاء الرئيس هادي الذي قام بتعيين حوثيين في المؤسسات الحيوية كالجيش والأمن والمخابرات؛ حيث عين حوثيين في رئاسة أركان الجيش وقيادة الأمن المركزي والمخابرات، وهو ما منحهم السيطرة الرسمية على تلك المؤسسات، سهلت لهم التغلغل في الحرس الجمهوري والأمن المركزي والاستخبارات، ولم يكن لدى الرئيس السابق صالح سوى التكيف مع ذلك وتجنب مواجهة الحوثيين.
وقبل اندلاع الحرب في 26 اذار/مارس 2015 كانت الظروف مهيأة لنشوب صراع مسلح بين الحوثيين وصالح، غير أن اندلاع الحرب أجلت ذلك الصراع، وأدت إلى تقوية الحوثيين بسبب الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته دول التحالف حين استهدفت جميع القوات المسلحة اليمنية، بإيعاز وتحريض، على ما يبدو، من الرئيس هادي وأطراف في سلطته، والتي رأت في التدخل الخارجي فرصة لها لتقوية مراكزها السياسية/العسكرية، والذي كان يتم بتدمير القوات المسلحة اليمنية، والتي تم احتسابها على صالح والحوثيين، وإنشاء قوات جديدة من أنصار هادي والانفصاليين الجنوبيين وحزب الإصلاح. وبفعل ذلك الاستهداف وتحت حجة مواجهة «العدوان» فرغ الحوثيون تلك المعسكرات من الأسلحة والذخائر وتم تخزينها ونشرها في أماكن جديدة تابعة لهم.
وكانت النتيجة من كل ذلك، أن قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي والقوات الخاصة وغيرها، والتي شكلها صالح لحماية نظامه، تفككت وذهب الكثير من أنصار صالح إلى بيوتهم ليصبح الحوثي هو المسيطر الفعلي على جميع القوات المسلحة الفاعلة.
وعشية المواجهات بين صالح والحوثيين كان الحوثيون قد جردوا صالح من معظم القوة العسكرية، ولم يتبق له إلا قوة عسكرية صغيرة تتمثل في حراسته الخاصة وبعض المعسكرات الصغيرة، وهي القوة التي أراد الحوثيون تجريد صالح منها قبل أيام من مقتله، الأمر الذي دفع بصالح لأن يعلن فك تحالفه معهم، ودعا إلى انتفاضة ضدهم من قبل جماهيره الضخمة التي كانت غير منظمة ولا تصلح إلا للاستعراضات الجماهيرية.
وكما اتضح لاحقا لم تستطع تلك القوات مجابهة القوة الهائلة للحوثيين، أما جمهور صالح الضخم فقد بقي معظمه متفرجا، فيما القلة التي حاولت أن تنتفض ضد الحوثيين تم قمعها بسهولة، ليلقى صالح مصيره الذي لم يكن مفاجئا إلا في توقيته وطريقة تنفيذه.
*عن القدس العربي