أنزل صالح، بمساندة الحوثيين، نكبة غير مسبوقة باليمنيين. ولم يمض وقت طويل حتى كانت أسرة صالح، كما أسرة الحوثي، في عداد الأسر المنكوبة. و"كل أسرة هي أسرة مكروبة بطريقة ما"، كما كان تولستوي يتحدث.
هذه هي الحرب كما علمناها وذقناها وما من سبيل للخروج منها ولا حتى للمضي قدماً فيها. فالجزء الجمهوري من اليمن يصطف وراء رئيس لا علاقة له بأي فكرة عن الجمهورية. أما اليمن الطائفي، يمن تحالف الانقلاب، فذلك معنيٌ بما كسبه حتى الآن ويسعى حثيثاً لمنح حربه طابعاً إلهياً. وتنصرف معركته بصورة نهائية إلى دفع الآخرين لتركه ومكتسباته، كونه نهائية وأصيلة ولا سبيل للمساس بها.
استخدم صالح الحوثيين كطائر كناري في مناجم الفحم. فعمال المناجم كانوا يحملون معهم طائر كناري في قفص ليقيسوا درجة تسمم المنجم بأول أوكسيد الكربون. فإذا مات الطائر هرع العمال إلى الخارج، وإن بقي نابضاً بالحياة خلعوا بزاتهم الثقيلة وعملوا. لكن طائر الكناري كسب معركة صنعاء، فبقي فيها عامل المناجم. لكن صالح، وهو ينزل إلى المنجم، لم يكن وحيداً. كان الرئيس الشرعي وقادة الجيش والقادة الشعبويون الجنوبيون، وقادة الأحزاب، كانوا جميعاً معه. كانوا كلهم عمال مناجم أصيلين، وكان الحوثي طائر الكناري الخاص بهم جميعاً. وها نحن، ويا للسخرية، نقف وراء كل أولئك على أمل أن يستعيدوا الدولة.
هذه الحرب المعلونة لا بد وأن تقف. ليس لأن الحكومة الشرعية والجيش الوطني المقلي بالزيف غير قادرين على حسمها. بل لأسباب أكثر تعقيداً من ذلك، وإن كان ذلك يأتي في مقدمة الأسباب. فالتحالف العربي، وهي أكذوبة لغوية تعني السعودية والإمارات، يجهز المناطق المحررة الآن للموجة الثانية من الحرب الأهلية. فالسعودية التي تقول إنها تعمل فقط لاستعادة الشرعية السياسية منعت هادي من العودة إلى العاصمة البديلة. أما التحالف الذي يعجز عن إعادة محافظ عدن إلى مبنى المحافظة فهو بالضرورة أكثر عجزاً عن فتح أبواب صنعاء. يسري الأمر نفسه على كل من يقف خلف فكرة الشرعية السياسية.
الشرعية السياسية هي فكرة ديموقراطية، ولا معنى لكون نظام هادي نظاماً شرعياً إذا لم تكن العملية الديموقراطية التي أوصلته إلى الحكم محل تقدير. يأتي التناقض التاريخي من الاعتقاد بأن دولاً بوليسية كالسعودية والإمارات ستخوض حرباً دفعاً عن "المشروعية الديموقراطية". كما فعلت الدولتان في سوريا ستفعلان في اليمن. فقد اخترقتا المقاومة الحرة وشكلتا سلسلة غير متناهية من الجماعات السلفية الجهادية التي انتهى بها المطاف، كما هو متوقع، في جبهتي النصرة وتنظيم الدولة. تقرير أخير للأمم المتحدة يقول إن التيارات السلفية التي تدعمها الإمارات في تعز تعبد الطريق لتنظيم القاعدة في المدينة. ما من لغز في هذه المتتالية الرياضية. لكن بلداً ممزقاً ومفككاً كسوريا هو في الأخير قدر السوريين لا السعوديين.
لدينا الآن ثلاثة أعياد وطنية وثلاث جمهوريات: جمهورية أكتوبر في جنوب اليمن، جمهورية ٢٦ سبتبمر في الوسط وجزء من الشمال، وجمهورية عاشوراء في شمال الشمال وصنعاء. لا تتداخل الجمهوريات، ويحتفل شعب كل جمهورية وحيداً بعيده الوطني. فلم تُلحظ أي بادرة احتفال في كل محافظات الجنوب، ولا في صنعاء، في ذكرى ٢٦ سبتمبر. أما ١٤ من أكتوبر فسيحتفل به الجنوبيون،كالعادة، بوصفه اليوم الذي تحررت فيه مدنهم من الاستعمار الشمالي. في اليمن، في الجمهوريات الثلاثة، يصبح كل شيء آخراً، وتذوب الحدود بين الحمق والجنون، وبين التاريخ والحمقى. في المحصلة فإن بلداً كبيراً يذهب إلى ضياعه المبكر، ولا يمكننا رؤية إشارة واحدة تقول إن ثمة نقطة ما سيتوقف عندها هذا التفكك.
لنأخذ صورة فوقية عن مدينة عدن. تحررت المدينة في العام ٢٠١٥، ولا تزال مشلولة وفاقدة لأهليتها كمدينة أولاً، وكعاصمة بديلة ثانياً. وهي مقسمة عملياً إلى أربع جمهوريات صغيرة، تتبع كل منها قائداً ميليشوياً. من يملكون وحدات عسكرية في عدن هم: هادي، الزبيدي، بن بريك، شائع. حتى الآن فشلت كل الصيغ الممكنة لدمج الجيوش الأربعة في جيش واحد. حتى تلك المقترحات التي طرحت لدمج جيوش الشعبويين الثلاثة، الزبيدي وشائع وبن بريك، في جيش واحد فإنها أيضاً فشلت. هناك صورة أخرى مماثلة في حضرموت. فقد أسست الإمارات جيشاً هشاً أسمته النخبة الحضرمية وحضرت عليه التزود بأي سلاح أرفع من السلاح الشخصي، جاعلة منه جيشاً في قدرة شرطة. لكن المكلا، العاصمة، تخضع بشكل رئيسي لكتائب عسكرية تتبع الجنرال الشعبوي الزبيدي، المقيم في عدن. وفي الوادي، أو حضرموت الحقيقية، فإن المنطقة المترامية الأطراف تلك تخضع كلياً لهيمنة المنطقة العسكرية الأولى، وهي تشكيل عسكري ضارب القوة يتبع الرئيس هادي مباشرة ولم تصب أي من آلاته، منذ بداية الحرب، بأذى. لا توجد أي صيغة وئام بين الجيوش الثلاثة في حضرموت، وما من سبيل لذلك في المستقبل.
لقد خلق احتلال صنعاء ثلاث جمهوريات، داخل كل جمهورية سلسلة متوالدة من الجمهوريات الصغيرة. ما أنجزه التحالف العربي، حتى الآن، هو المساعدة على جعل الحوثيين واحدة من القوى بعد أن كانوا هم القوة كلها. تلك مسألة بعيدة كل البعد عن فكرة استعادة الدولة والحفاظ على ترابها الوطني، كما تنص كل المسودات القانونية التي استندت إليها السعودية.
لا سياسة ولا حرب، لا سلم أهلي ولا حرب أهلية شاملة، لا موت كافي ولا حياة كاملة. هذه هي الصورة التي أنجزتها الدولتان الإسلاميتان الكبيرتان في اليمن: السعودية وإيران. ولولا الحمقى من اليمنيين لما كانت اليمن عُرضة لكل هذا الخراب، ولما منحت لاهوتيي الدولتين الفرصة للإضرار بالأرض والناس على ذلك النحو.
ثمة حل عملي وممكن: أن يجلس ممثلون عن الجمهوريات الثلاث ويجروا حواراً برعاية دولية، على أن يستهدف الحوار الوصول إلى صيغة قابلة للحياة من شأنها وضع حد للحرب الأهلية، واستعادة الإدارة والعمل على وصل اليمن بالعالم الخارجي. وتحت صيغة فيدرالية ثلاثية، أو كونفدرالية في أسوأ الظروف، ستستعيد اليمن مظاهر الحياة تدريجياً، ومستقبلاً ستعيد الأجيال الجديدة وضع الحواجز الصلبة بين التاريخ والحمقى. ذلك أن البديل هو مزيد من التفكك والجوع الوحشي والجريمة. وفي النهاية فسيتساوى اليمنيون جميعهم في الحقيقة التولستوية التي تقول إن كل أسرة هي أسرة مكروبة، ومنكوبة، بشكل ما. وإذا عجزت الجمهوريات الثلاث عن المضي قُدماً في صيغة رياضية مشتركة فلن يكون بمقدور أي منها أن تمضي منفردة.
* من مدونة الكاتب في الجزيرة نت