الجمهورية ونقيضاتها عن هادي كقائد ميليشوي
الأحد, 17 سبتمبر, 2017 - 08:52 مساءً

قال الرئيس هادي للقدس العربي، قبل أسبوع، إن الحل العسكري للمسألة اليمنية هو الحل الوحيد المُتاح، والممكن. كعادته يتحدث عن استعادة صنعاء وهو الذي لا يجرؤ على العودة إلى عدن. يريد هادي الجمهورية التي تركها في صنعاء، تلك التي صارت شيئاً يخص عائلة الستين.

ما يجري في اليمن هو حرب بين الجمهورية ونقيضاتها، بعد أن نتخلص من كل الثرثرة المعتادة عن الحرب. فالحوثيون موضوع غير جمهوري، أولاً، وغير سياسي ثانياً. إن جمهورية لكل الناس هي التحدي الذي يقض مضجع زعيم الجماعة وقادتها السلاليين. في الأيام القليلة الماضية أُغرِقت محافظات الحوثي بالدعاية الدينية لمشروع الولاية. كان الإعلام الحوثي واضحاً في تعريف مشروع الولاية، ولأول مرة سمع اليمنيون تعريفاً إجرائياً يقول إن الخضوع لحكم آل البيت السياسي هو فريضة دينية، وذلك ما تعنيه الولاية. ومن إذاعة صنعاء تحدث الدعاة الحوثيين عن عبد الملك الحوثي بوصفه حائزاً على شروط الولاية، والحاكم دي فاكتو، ومُراد الإله.

بصرف النظر عن ما تقوله جماعة الحوثي، عن ادعاءاتها والبروباغاندا التي تستتر وراءها، فإن معركة الحوثي المركزية هي مع الجمهورية، أي الدولة التي لكل الناس والتي ينشأ سلطانها من الشعب، من الأسفل إلى الأعلى. فعلياً أنجز الحوثيون دولة لاهوتية ينشأ سلطانها في الأعلى ثم يهبط، وهي صورة كلاسيكية لكل المشاريع اللاهوتية. في خطابه الأخير تحدث الحوثي عن صواريخه التي ستطال دول الخليج. الحوثي قائد ديني لا يمثل قانوناً ولا يستند إلى دستور، لكنه يملك الصواريخ. الرجل الذي يتحدث عن الصواريخ هو شخص يقدم نفسه، بصورة نهائية، كحاكم. فمن يمتلك الصواريخ يملك الدولة، ومن يملك الدولة ينصب الصواريخ.

ذهبت السلطة إلى هادي مطلع العام ٢٠١٢، بعد عام كامل من الثورة. خلال عامين ونصف حاول هادي أن يؤسس لجمهورية عائلية يجلس "أهله وعشيرته" في مقاعدها المتقدمة. كان صديقاً لجمهورية يضع هو مقاييسها، ويحلم بدولة اتحادية يكون قادراً هو، وعشيرته، على ضبط إيقاعها. سرعان ما صار نجل هادي حاكماً ثانياً، ومعه أشقاؤه الذين بروزا كسيوف إسلام في نسختهم الجمهورية.

عندما اقتحم الحوثيون محافظة عمران، وهي محافظة ذات أهمية جغرافية كونها تطل على صنعاء، سحقوا القوة العسكرية التي كانت ترابط في المحافظة ممثلة في اللواء ٣١٠. كان لواءً عسكرياً كبيراً ينتمي لسلالة الجيش الذي تشكل بعد جمهورية سبتمبر ١٩٦٢. وفي العام ٢٠١١ أيد ذلك الجزء من الجيش الثورة، أو جمهورية فبراير. ولأن الرئيس هادي، بمعنى ما، هو رئيس غير جمهوري لجمهورية لا تكف عن التوالد، فقد سمح للقوات اللاهوتية القادمة جبال صعدة بسحق اللواء العسكري وقتل قائده الجمهوري. في الأيام التالية قال هادي للضباط الغاضبين إنه يستغرب موقفهم لأن "واحداً منهم" قُتل، فجماعته تخسر كل يوم رجلاً. وبالضرورة فهادي لم يضع تعريفاً معيناً ل"نحنُ وأنتم"، فقد كان يتحدث في سياق غير جمهوري.

بعد سقوط عمران ناقشت جماعة من كبار جنرالات الجيش، بمن فيهم قائد الحرس الجمهوري، خطة لانقلاب عسكري يطيح بهادي، ويتصدى للجيش الإمامي الذي يقترب من صنعاء. لا يعلم أحد على وجه الدقة متى هجر قادة الجيش تلك الخطة. لكن معلومات متماسكة من مصادر عُليا تقول إن الضباط الموالين لحزب الإصلاح رفضوا الفكرة بعد رجوعهم إلى قادتهم السياسيين. لا يزال هادي يقاتل دفاعاً عن الجمهورية التي يعرفها، تلك التي تسمح له بنصب "هودجه" عليها.

كان هادي لما يقرب من عقدين من الزمان نائباً لأحد أخطر خصوم الجمهورية. الرجال الذين أحاطوا بصالح لزمن طويل، وكانوا جزءً من آلته الذهنية والعملية، راكموا عداءً متزايداً لأي فكرة عن جمهورية لكل الناس، أي لدولة الجماهير، الدولة التي يخرج سلطانها من الشعب ضمن إرادة حرة. كانت الجمهورية، بهذا التعريف، هي ما يقلق صالح. وقبل شهر من الآن أصدر الحوثيون قراراً يضيف الاستخبارات العسكرية إلى مهام/صلاحيات القائد العسكري لميليشيا الحوثيين، أبو علي الحاكم. كان الأمين العام المساعد لحزب صالح أول من عبر عن ابتهاجه بالقرار، وقال عبر تويتر إن الحاكم يستحق ما هو أكثر من ذلك. يقول الرجل الثالث في حزب صالح إن قائد الميليشيا، التي أخرجت اليمن من التاريخ، جدير بالجلوس على أي مقعد رفيع من مقاعد الجمهورية.

استعاض صالح بالدولة عن أسرته الممزقة، عن الشتات الذي أحاط به في طفولته. دفعه حرمانه من التعليم، فهو رجل بالغ الأمية يضرب الجهل في نخاع عظامه، إلى احتقار العلم والإبداع. حتى إنه كان يجلب الشعراء إلى مجلسه ليقولوا له نكاتاً جنسية، كما فعل مع الحارث الشميري وآخرين. في ٢٠١١ ثارت الإنتلجنسيا اليمنية، وهي طبقة صغيرة حصلت على تعليم حديث، ضد نظامه وفلسفته ودفعت قوى أخرى اجتماعية وسياسية للالتحاق بها. كان بمقدور صالح أن يواجه الإنتلجنسيا تلك بأسلحته الخاصة، فهي طبقة عزلاء وصغيرة لا تملك أكثر من مقولة سياسية منظمة. كانت ثورة من داخل الجمهورية لا من خارجها، وفي أقل حالاتها فقد كانت احتجاجاً شاملاً ضد الطبقة التي ذهبت بالجمهورية في غير طريقها.

لكن صالح اختار عقابين أكثر قذارة وبطشاً: الحوثيين، ثم هادي. فالجماعة الحوثية خليط من الوهم والعنف والسفه، وذلك عقاب تستحقه الطبقة المتعلمة التي طالبت صالح بالرحيل، أو عقاب يستحقه العلم والمعرفة. داخل الجمهورية، دولة كل الناس، يملك الفرد الحق في مطالبة حاكمه بالرحيل، فهي دولة الجمهور، يملك فيها الشعب الدولة لا العكس. ذلك الموقف أغضب صالح، وكان أول تعليق أطلقه ضد الثورة هو "وقاحة". الوقاحة، في تقدير صالح وفريقه، تمثلت في احتجاج الشعب المملوك ضد الحاكم المالك. وتلك ليست جمهورية، ولا علاقة لها بأي شكل من أشكال دولة الشعوب.

بالتوازي نشأت قوى جنوبية احتجاجية، سرعان ما صارت قوة مسلحة يقودها جنرالات غير جمهوريين. حالياً يملك جنرال عسكري جنوبي سلسلة كتائب مسلحة تنتشر في عدن وما حولها، كما استطاع نشر كتابتين في مدينة المُكلا. الجنرال الزبيدي لا علاقة له بأي فكرة عن الجمهورية، ويقدم خطاباً غامصاً عن التحرير جاعلاً من نفسه مرادفاً أخلاقياً وتاريخياً للدولة التي يريدها. ينشط في الجنوب أيضاً حزام عسكري يتشكل، في الأساس، من حركة سلفية هي مقلوب الحركة الحوثية، أو صورتها على المرآة. لا يكف القائد السلفي، بن بريك، عن السخرية من كل فكرة للدولة لا تقع ضمن تعريفه الخاص لها. فالجمهورية التي يعرفها بن بريك هي تلك التي يحدد هو مقاييسها الأخلاقية والقانونية. 

هي حربٌ بين الجمهورية ونقيضاتها، حرب أفقية تبدو فيها الجمهورية التي أنجزها اليمنيون في الشمال والجنوب قبل نصف قرن أبرز الخاسرين، أو الغائبين. حتى هادي، في قصة الحرب هذه، يبدو أقرب إلى قائد ميليشوي منه إلى رئيس جمهوري، ولم يكن قط جمهورياً صميماً.

على امتداد جغرافيا الحرب ثمة تشكيلات عسكرية رسمية وتشكيلات مقاومة شعبية تعي جيداً معنى الجمهورية، وتستبسل دفاعاً عنها. لكن تلك التشكيلات تتعرض لخذلان أو حصار من قبل كل نقائض الجمهورية، بمن فيهم هادي. وأحياناً يتم ضربها من الجو كما حدث في منطقة العَبْر في السنة الأولى للحرب.

من حائط الكاتب على فيسبوك 

التعليقات