الحالة اليمنية الراهنة شديدة التعقيد، الحرب غيرت مفاهيم الناس وأفكارهم وأهدافهم وتحالفاتهم، تسارعت الأحداث، والثابت منذ ثلاث سنوات هو استمرار الحرب إلى أجل غير معلوم، تغيرت أهداف الحرب من استعادة الدولة وعودة الشرعية إلى بناء تحالفات محلية مشوهة بغرض الحرب على ما يسمى بالإرهاب، ولا شك أن القضاء على الإرهاب الموجه من الاستخبارات الإقليمية والدولية واجب وطني، لكن الدخول في حرب وهمية مع مسمى الإرهاب دون وجود خطر حقيقي على اليمن من هذا الإرهاب -أو لنقل تضائل حجم الإرهاب وحجم خطرة على اليمن- هذه الحرب الجديدة لا علاقة لليمن بها، ولا مصلحة للشعب منها، ربما تخدم أجندة تجار السلاح والحروب الدوليين الكبار، لكنها تشوه صورة اليمن حاليا، من يحاربون الإرهاب اليوم يستهدفون الإطاحة باسم اليمن وهو في الحضيض أصلا بفعل الانقلاب وبفعل صناع الانقلاب، فعندما كانوا حكاما شرعيين وضعوا صورة نمطية لليمن ولليمنيين على أساس إنهم إرهابين وهنا تكمن الكارثة.
جاءت العاصفة لإنقاذ الناس لكنها اليوم بحاجة إلى من ينقذها من هذه الحرب التي لم تعد واضحة المعالم، تفكك منظومة التحالف -أو لنقل الخلافات الخليجية الخليجية-قوض منظومة التحالف شئنا أم أبينا، مع أن قطر لم تكن تمثل ثقلا عسكريا في التحالف، الا أنها كانت تمثل ثقلا سياسيا واعلاميا كبيرا. الرمال اليمنية المتحركة يبدو أنها ستبتلع المتحاربين; تحالف وانقلاب، فعدم اعتبار التحالف للشرعية شريكا فعليا في هذه الحرب يعد سابقة لم تحدث في تاريخ الحروب من قبل، كما أن اعتبار التحالف جزء من معسكر الشرعية معه وجزء ضده يقوض فكرة التحالف وهدف التحالف المعلن.
الجمود ظل عقودا يخيم على الحالة اليمنية، لكن رياح التغيير التي انبعثت في 11 فبراير 2011 غيرت اليمن فعليا، فككت النظام المحلي وفككت في طريقها التحالفات الإقليمية، لم تعد اليمن حديقة خلفية لجيرنها وهكذا فعلت الثورة، وحدوث الانقلاب كان ردا إقليميا على الثورة الشعبية، وجاء هبوب العاصفة ردا إقليميا أيضا على الخطأ الذي ارتكبوه هم بدعمهم للانقلاب، محاولين إصلاح الانقلاب بالعاصفة، وكان المتوقع اقتلاع جذور الانقلاب، لكن مع طول فترة الحرب بدأ التحالف فعليا بتمزيق اليمن الواحد وسد الطرق أمام الشرعية في حسم المعركة ودخول العاصمة صنعاء، أصوات الانفصال المناطقية الممولة صارت جزأ من الواقع بالقوة المدعومة من التحالف لا بقوة الشارع.
من جانب أخر الشرعية اليمنية كثير من اتباعها من الموظفين صاروا يتبعون من يمولهم، وليس كل موظفي الشرعية معها ولا يعملون معها، لقد تم علفهم وتسمينهم فصاروا مشكلة تحتاج إلى حل جذري، صار الفساد مهمة كثير من أفراد الشرعية من التجارة بالنفط ومشتقاته إلى التجارة بالسلاح والدواء والغذاء والتجارة بالإعلام الموجه وكذلك التجارة بالتقارير الأمنية والاستخباراتية، وهذا يفت في عضد الشرعية الضعيفة أصلا.
كل الأحزاب السياسية اليمنية لديها موقفان من العاصفة "مع وضد" ماعدا واحد، تحولت الأحزاب كلها إلى مهزلة، لا شارع يتبعها ولا أفرادها مازالوا ينتمون إليها، مجرد موظفين يصدرون بيانات باهتة، والقرب من التحالف والبعد عنه صار همها، لقد تم نسيان الجماهير والشعب وأعضاء تلك الأحزاب وركنها جانبا حتى اشعار أخر من أبو ظبي وغيرها من عواصم النفط، هناك خلل في البنى التنظيمية والفكرية لهذه الأحزاب، وهناك مشكلة في فلسفة وجودها، فبدلا من أن تكون ناطقة باسم الجماهير صارت حملا على ظهر الجماهير، مما زاد تعقيد المشكلة اليمنية.
هذه المرحلة تحتاج من الجميع نسيان الأيدولوجيات والتوجه نحو وجدان الشعب وملامسة واقعة، لا إرضاء الخارج على حساب الداخل، الجماهير أكثر توازنا وحنكة من المكونات السياسية، وهذه مشكلة في مرمى الشرعية والأحزاب، كما أن تجاهل الجماهير ينذر بكارثة حقيقية، تجاهل التحالف والشرعية لهذه الكارثة لن تعفيهم من غضب الشارع اليمني.
أحدثت ثورة التغيير حراكا سياسيا مكثفا في اليمن، هذا الحراك هو لب الثورة وهو لب مقاومة الانقلاب وهو لب مقاومة أخطاء التحالف والشرعية ولب مقاومة الالتفاف على الهدف المعلن من العاصفة، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل هذا الحراك، فما جاء بثورة لا ينتهي بانقلاب ولا بعاصفة ولا بتنفيذ اجندات مشئومه تقسم الأرض وتصنف الشعب إلى فئات.
من لا يدركون المزاج الشعبي في اليمن فشلوا في جذب واستمالة الجماهير، دعونا نصارحكم اليوم لماذا تأخر النصر; لأن الشعب أو معظمه لا هو مع شرعية ولا مع انقلاب، مازال ساكتا صامتا محايدا مهما قال الإعلام ومهما قال الساسة، هناك عدم رضى واضح عن الانقلاب الذي أطاح بالجمهورية والدولة وهذه القضية ليست محل جدل، كما أن هناك عدم رضى عن أداء الأحزاب السياسية والشرعية والتحالف.
يتغافل الجميع أنهم يتعاملون مع شعب تمتد جذوره إلى عشرة ألف عام من الحضارات اليمنية التي شكلت قومية وهوية هذا الشعب وأفرزت مجتمعا معقد التركيب لا يمكن تفكيكه، ظلت الهاشمية السياسية ألف عام ولم تستطع حتى مجرد الاندماج بين مكونات هذا المجتمع، جاء الأحباش قبلهم ولم يستطيعوا الاندماج لأن الشعب اليمني كان يركنهم في خانة قصية ويمارس حياته ومعيشته على طريقته الفريدة لا يخضع ولا يمكن اخضاعه ويعتبرهم في خانة غير الموجودين، جاء الفرس واستوطنوا صنعاء، لم يدمجهم المجتمع في نظامه القبلي ووصمهم بالأبناء وبمفردة "بني" ووصم كانوناتهم المجتمعية "بالبهائم السبع".
إن فهم المجتمع اليمني يحتاج إلى فلسفة تجمع بين قلب الفلاح، وعقل الراعي، وحنكة الصياد، وحكمة التاجر، وهمة القائد، ووعي المثقف، ولباقة مسوقي المنتجات الزراعية والحيوانية في الأسواق الشعبية، ونهم المتعلم، وشجاعة الثوار، وبعد نظر ساكني الجبال. إننا أمام شعب ومكونات اجتماعية متعددة متنوعة شديدة الحساسية، لا يمكن الضحك والكذب عليها عبر قنوات السياسة والإعلام. إننا ازاء مجتمع محافظ على قيمة ومعتقداته العرفية والاجتماعية من عشرة ألف سنة ولسنا أمام مجتمع رفاهية منزوع الجذور. من الصعب شرح روح هذا المجتمع وماهيته، ولكن من باب تقريب الفكرة لمن يتصدرون اليوم في الواجهة محليا وإقليميا وهم لا يفقهون الأبعاد الاجتماعية والسيكولوجية والأخلاقية والثقافية السلوكية التي تكون جموع هذا الشعب، ومن لا يفهم الشعب سيخسر المعركة، خسرت الإمامة المعركة في الستينات، وخسر عبد الناصر الذي تحول ضباطه في اليمن إلى ناهبي آثار وسماسرة، وخسرت السعودية معركتها في اليمن واكتفت بالاحتفاظ بالبدر كتراث مزيف لا قيمة له، من يريد تكرار الماضي فليتجاهل الشعب، مع العلم أن الشعب اليوم غير الشعب بالأمس، اليوم لديه من مقومات الخروج من المحنة وعوامل النجاح والتفوق والنهوض ما يفوق تفكير قوى الشرعية والانقلاب والتحالف مجتمعين، احذروا غضبة الشعب قبل أن يحيل صنعيكم إلى رماد.
هذا الشعب فوق السياسة والسلطة والقوة والمال والإعلام ولديه من المعرفة ما يمكنه من إعادة انتاج ذاته وهويته ودولته وهذا ما يبشر به فشلكم جميعا، وهذا هو اليمن الخلاق الذي لا تعرفون.