إنعاش المؤتمر الشعبي كمقدمة لإنعاش الحياة العامة
الإثنين, 07 أغسطس, 2017 - 03:20 مساءً

محاولات المؤتمر لإعادة إنتاج نفسه كحزب، ورغبته الحثيثة في استعراض قوته "الجماهيرية"، هو فعل ينضاف إلى نقاط الضوء القليلة الطالعة من بلد مزقته الحروب والمؤامرات. كأننا بصدد واحدة من علامات الحياة يبعثها مركبٌ آخذ في الغرق. عاش المؤتمر خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة على هيئة ميليشيا، وفي أحيان كثيرة باعه صالح بالقطعة كمتاع، ووجهه لخوض حرب تصب بكاملها في صالح أعداء الجمهورية، أي أعداء المؤتمر مبدئياً.

استخدم صالح المؤتمر في مداواة نزوعه الانتقامي وروحه القاتلة، دافعاً جزءاً كبيراً من الحزب للعمل في خدمة مشروع كهنوتي انتحاري. لم يكن المؤتمر، كحزب، بحاجة لخوض أي شكل من أشكال الصراع ضد نفسه ولا ضد الدولة. فقد كان يملك نصف الحكومة اسمياً وكل أجهزتها البيروقراطية عملياً، ويهيمن على المفاتيح الاجتماعية وينتشر رجاله في كل مستويات الجيش والأمن، وكان قادراً على حسم أي انتخابات قادمة لصالحه. حتى إن الحديث عن رغبة صالح الضارية للعودة إلى السلطة عبر الانقلاب على الدولة لا يبدو كافياً لشرح ما الذي فعله الرجل. فقد كان قادراً، عبر حزبه وشبكته الاجتماعية ورابطة مصالح ضاربة القوة، على العودة إلى الواجهة عبر السبل الديموقراطية المقترحة في مسودة الحوار الوطني.

لكن صالح اختار طريقاً آخر، وأخذ يصنع من الحزب واقيات للحركة الحوثية البربرية. اختار أن يركب ظهر النمر، فكانت النتيجة مروعة. صالح مخلوق على هيئة سلسلة لانهائية من العقد النفسية التحكمية، وهو كائن يسكره الانتقام أكثر مما تغويه السلطة. وفي أحيان كثيرة يكفيه أن يرى الآخرون رغبته في الانتقام، بصرف النظر عن قدرته على تحقيق ذلك. الرجل الذي انشطر ذهنه باكراً، بسبب طفولة مضطربة تفتقر إلى العناصر الأولية للحنان والشمل، أكمل حياته منشطراً، حتى إنه مضى يشطر كل شيء، كل شيء، من الدولة إلى النقابة، ومن الحرب إلى السلم، ومن الحقيقة إلى الوهم.

انتهى به المطاف لشطر حزبه، ورابطته، إلى حزب وميليشيا، ثم شطر نفسه إلى زعيم وقاطع طريق في الآن نفسه. ولا يزال كل شطر آخذاً في الانشطار إلى أشياء أدنى. شوهد قاطع الطريق وهو ينشطر إلى عناصر أسوأ من ذلك: إلى داعية سلام يزرع نصف مليون لغم في أرض شعبه.

قلت قبل عامين إن انهيار المؤتمر الشعبي العام إلى مستوى ميليشوي هو واحد من الأحداث الأكثر سوءاً التي حلت بأرضنا. شيئاً فشيئاً يدرك المؤتمر، بصرف النظر عن موقف صالح وتدابيره، أن التحاقه بتلك المغامرة الملكية كان خطيئة جسيمة. فهو الحزب الذي يعنيه الاستقرار أكثر من غيره كونه يعج بالأثرياء والعوائل السياسية والمستثمرين المحليين، أي بالذين يعنيهم السلام بالمقام الأول.

يعلم المؤتمر الشعبي العام الآن أن عبد الملك الحوثي لا يريده سوى دويدار حالي. وحتى فيما لو نجحت مغامرة ٢١ سبتمبر، فإن الحوثيين كانوا سيفعلون بنخب المؤتمر الشعبي العام ما فعله الخميني بالنخب السياسية والثقافية والحزبية في الخطوة الثانية لتأسيس الجمهورية الإسلامية.

يحاول المؤتمر الآن استعادة سمعته قبل كل شيء، سمعته كحزب، وسمعته كمجموعة سياسية، وسمعته ككيان قانوني. النوايا تلك بحاجة لتعزيزها، ومساندتها، فهي نوايا جيدة ويمكنها أن تؤسس لمعنى وطني قابل للحياة. في نهاية المطاف يمكن للمرء أن يدير حديثاً مع المؤتمر الشعبي العام حول قضايا مشتركة بلغة مشتركة، وحتى إنه يمكنك التلويح بفكرة المصالح المشتركة. غير أنه ليس بمقدور أحد، أي أحد، أن يجري نقاشاً لمدة خمس دقائق مع عبد الملك الحوثي أو صالح الصماد. إذ كيف بمقدورك أن تعالج، منطقياً، أوهاماً لاهوتية يزيد عمرها عن ألف عام.

فلا تزال أسرة عبد الملك الحوثي، حتى الساعة، تعتقد أن حسين الحوثي لم يقتل، فليس بمقدور بشر أن يلحق به فعل الموت. وأن الرجل عائد، أو على وشك العودة. هذه ليست مزحة، ولا هي تخمين، بل معلومة غاية في الدقة. التحق صالح بالمغامرة الحوثية معتقداً أن بمقدورها احتواءها فيما بعد، بعد أن تكون قد أنجزت له طموحه في الانتقام من خصومه. كان خصومه كثيرين لدرجة أنه لم يعد يستطيع تحديدهم، ولخصهم في لحظة حقد نادرة في الدولة. في الأشهر الأولى من الحرب نالت المحافظات الجنوبية تحريرها، بفعل مقاومة ضارية ودعم كثيف من التحالف العربي. مع اندحار الحوثي من جنوب اليمن اندحر أيضاً المؤتمر الشعبي العام. ما هو أسوأ من هزيمته كحزب في الجنوب هو فقداته الكامل لسمعته، وتمثّله في صورة ميليشيا طائفية غير جديرة بمنحها أي ثقة مستقبلاً، لا ثقة وموطئ قدم.

في الاستعراض الجماهيري القادم، من المفترض أن يجري في الخامس والعشرين من هذا الشهر، سيحشد المؤتمر طاقته الجماهيرية في العاصمة وحسب. أي أنه سيحاول التمدد في المجال الحيوي الحوثي. تقول الدعاية المؤتمرية إنهم خارجون ليعبرون عن أنفسهم كحزب، أي كعدو بنيوي وتاريخي للجماعة الحوثية. فهي جماعة قامت، في الأساس، لهدم كل مظاهر السياسة وإبدالها بالولاية، أي بسلطة دينية شاملة يحدد السيد الحوثي ملامحها ومداها. رغم أن جماعة الحوثي تأسست عملياً منتصف التسعينات، إلا أنها أنجزت أول اتصال حقيقي بالمؤتمر الشعبي العام عندما تحول الأخير إلى ميليشيا. فشلت كل محاولات المؤتمر دفع الحوثيين لخوض السياسة كحزب. فالجماعة لا تقيم وزناً للسياسة، فقد رد قائدها على اللجنة الرئاسية 2014 التي عرضت عليه رغبة الرئاسة في دعم تحول جماعته إلى حزب بالقول إنه يرى المشكلة الأساسية في وجود نظام حزبي في البلد.

ثمة صراع حقيقي يأخذ حيزاً متزايدا في العلاقة بين المؤتمر الشعبي العام والحوثيين. لنتذكر أن المؤتمر حزب جمهوري، وأنه نشأ في الأساس لتعزيز وضعية الجمهورية من خلال صناعة كتلة وطنية عابرة للكيانات، على إثر الفوضى التي عمت العاصمة نهاية سبعينات القرن الماضي.

إعادة بعث المؤتمر تبدو واحدة من المهام الوطنية الملحة. فقد آن الأوان ليعود الحزب إلى منطقة ما، لتكن ما بين الدولة والميليشيا. فهو حزب لا تؤهله خواصه التكوينية للاختباء في زي الميليشيا لزمن طويل. تعقدت، أخيراً، النوازع الانتقامية في صدر صالح ولم يعدر قادراً على تحديد جهة ما لتوجيه الطعنات إليها. وربما إن تلك الصورة الفوضوية لرغباته القاتلة قد أوهنته أخيراً، وربما أبطل بعضها مفعول بعض. ليس بمقدور صالح إعادة ترميم سمعته، ولا الإفلات من الرواية التاريخية.

 فهو الرجل الذي دفع أمته إلى الجحيم، وكانت تقف منهكة على الحافة. لكن المؤتمر، كحزب، لا يزال قادراً على إعادة إعمار سمعته، وتأهيل وضعه الأخلاقي. سيحاول صالح استخدام المؤتمر، وهو يتعافى من نكسته. لكن الرجل السبعيني أصبح يتقادم به العمر وتتآكل حيله وطموحاته، بينما تنهض الأحزاب لتعيش لأجيال عديدة.

التعليقات