بعد ساعة واحدة من خطاب تنحي مبارك، 11 فبراير/شباط 2011، خرج آلاف الشبان في مدينة تعز رافعين هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام".. من تلك الليلة أخذت أكبر الثورات في التاريخ اليمني اسمها" الثورة اليمنية".
كان نظام صالح قد استنفد قدرته على البقاء. خلال ثلث قرن استطاع صالح أن يخلق نواة صغيرة خضراء، لا يشكل قطرها 1% من قطر اليمن، أسماها ا"لجمهورية" اليمنية وعني بها. خارج النواة الخضراء، أو شبكة المصالح، عاش ملايين اليمنيين يرزحون تحت فقدان الأمل واليأس على نحو متزايد.
لحظة انفجار الثورة في شوارع تعز أولاً، ثم تحت سماء الجمهورية كلها، كان80% من الشعب اليمني تحت سن الـ25 عاماً. كانت الثورة الكلمة التي تقول كل شيء وليس بمقدور أحد الإمساك بها، فهي تملك كل الملامح وليس لها هيئة واحدة، حالة من الزئبق المبهر والجلي، أو كالريح والرماد معاً، لا مكان للحوار معها ولا لوضعها في قالب، إنها تتدفق وتكبر وحسب، ولم يكن بمقدور أحد أن يتنبأ بالجهة التي ستسلكها، ولا تعلم حتى هي ما الذي ستفعله غداً.
كانت هي الثورة التي استكملت كل عناصر تعريف الثورات، وامتلكت كل نبلها وبراءتها ومشروعيتها.كانت الثورة عملية حتمية، فالمعادلة التي جعل منها صالح طريقته في الحكم: 1% يملكون 99%، و99% يملكون 1%، لم تعد قابلة للحياة.
عند هذه الحقيقة الرقمية المُرَّة برزت غريزة البقاء، وهي أكثر فتكاً من غريزة التملك والهيمنة، إنها غريزة عميقة وحادة ومتوحشة أيضاً. لقد حكم صالح على الشعب اليمني بالاضمحلال والتلاشي، ولا يقبل الكائن البشري بهذا المآل التراجيدي بيسر.
عند المنحدرات تتجلى الطاقة الكامنة والمفترسة والخلاقة معاً، وهذا ما فعلته "الثورة اليمنية" في فبراير/شباط 2011 في مواجهة كل ظواهر العنف التي سلطها نظام صالح عليها، وقبلاً في مواجهة الأقدار المميتة التي أحاط بها صالحُ شعبه.
أخبرني وزير عمل معه كيف كان صالح يرسل العاملين معه إلى دول العالم ليقنعوا الآخرين أن اليمن من الدول الأكثر فقراً لا من الدول الفقيرة. وعندما اكتشف دالة الإرهاب عاش سعادة جديدة، فـ"الحدبة" التي بناها على ظهر اليمنيين راح يشحذ بها في العالم، وكانت المأساة اليمنية تدر له دخلاً وتبني له جيوشاً.
في وثائق ويكيليكس قرأنا كيف كان يساوم الأميركان على عناصر القاعدة بطلب المزيد من السلاح لوحدات في الحرس الجمهوري. كان حريصاً على أن يُظهر المزيد من القاعدة ليبيعها في العالم.
أما التصنيف الائتماني للدولة فقد هوى إلى قعر سحيق. ففي العام الذي سبق الثورة دخل اليمن في الفترة من أبريل/نيسان إلى مايو/أيار ثلاثة سياح أجانب فقط. لقد جعل صالح من اليمن مصاص دماء للمنطقة والعالم، وآحالَ اليمني في كل مكان إلى حالة أمنية، وإلى جانب تاريخ الرمد في عينيه هبطت الهزيمة والوجل إلى مشيته وتلفته، إذا استعرنا لغة البردوني الشهيرة.
لقد ذهب صالح بعيداً بعيداً. فقد راح يقضي على قشرة الديمقراطية التي استخدمها مراراً في تجديد شرعية نظامه. قرر تعديل الدستور، أو انتهاكه، من جديد والتمديد لنفسه مدى الحياة. أسمى اليمنيون تلك المحاولة: "عملية قلع العداد"، أي عداد الفترة الرئاسية.
يئست النخب السياسية من الحوار مع صالح. ففي الثامن والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2010، مزق صالح وثيقة اتفاق مهم توصل إليه اثنان من رجاله -عبده ربه منصور هادي وعبد الكريم الإرياني- مع المعارضة اليمنية ممثلة باللقاء المشترك بعد سباق طويل ومرهق من الجدل والنقاش. صبيحة تمزيق صالح لتلك الوثيقة دعا إلى حوار مع القوى السياسية مستخدماً لغة تهديد تبعث الرهبة، كان يشترط على الحوار أن ينتهي بـ"انصياع". وكانت مفردة "انصياع" تأتي دائماً في خطاباته كمعنى عملي لفكرة الحوار.
بينما كان نظامه يحتضر كان هو يطبق عليه الأنفاس، ويهدد الجميع على طريقة "عتريس" في فيلم شيء من الخوف "أنا عتريس يا ولاد الدهاشنة ومحدش قدي".
سرعان ما التحقت أحزاب اللقاء المشترك بالثورة التي ستحدث بعد ذلك بثلاثة أشهر وأيام. إذ لم يعد لدى نظام صالح من عروض جديدة يمكنه تسويقها. أما أحزاب المعارضة فبعد ربع قرن من الحديث إلى صالح انتهت إلى استنتاج عملي مبدئي: "الثورة".. !
على نحو متزايد ملأ اليمنيون الميادين وأنفقوا كل ما لديهم. ناموا على الأرصفة، في مطر الصيف وصقيع الشتاء الجاف قرابة 700 يوم. لم يحملوا سلاحاً، وأحضر صالح كل السلاح. قتلهم في "تع"ز و"عدن" وفي "صنعاء" وردوا عليه بمزيد من الأناشيد، بمزيد من الصدور العارية، وبمزيد من الحماسة الأسطورية..
أبعد من ذلك فقد أطلق صالح عليهم جماعتين من جماعاته الخاصة: الحوثيين والقاعدة. بقيت الثورة في الميادين تكتب الأناشيد، وتناشد العالم، وتتعرض لوحشية الجماعتين معاً في آن واحد ومن جهتين مختلفتين. سيطرت القاعدة على مساحات واسعة من الجنوب، بينما كان اليمنيون يهتفون في الميادين.
في التقرير الذي قدمته لجنة العقوبات إلى مجلس الأمن، وكانت الديلي تيليغراف أول من أشار إليه، ورد أن صالح اجتمع بالقيادي في القاعدة "سامي ديان" وطلب منه تسلُّم محافظة أبين في حضور وزير دفاعه. سيعمل وزير دفاعه، محمد ناصر أحمد، على تسليم أبين إلى القاعدة أثناء الثورة، وسيستكمل مهامه وزيراً للدفاع في حكومة هادي ليسلم صنعاء إلى الحوثيين.
حظي صالح برجال مخلصين كذلك الوزير. غير أن كل ذلك لم يُكتب له النصر، وآلت الأمور إلى ما هو أسوأ.
أما الحوثيون فقد شهد العام 2011 ذروة توسعهم، ورُصِدت عمليات تسلُّم سلاح ومعكسرات في مناطق عديدة تحت إشراف التشكيلات العسكرية المساندة لصالح. في ذلك العام استكمل الحوثيون سيطرتهم على صعدة بغزو المدينة، واجتاحوا ثلاث محافظات جديدة: "الجوف" و"عمران" و"حجة"، مجتزئين مناطق واسعة.
أما إيران فقد خفضت من نبرتها حتى الحدود الدنيا كي لا تثير الانتباه لما تفعله. لكي يخفي الحوثيون حركتهم العسكرية العاصفة التي قاموا بها في زمن الثورة راحوا ينصبون مخيماً في صنعاء ينادي بإسقاط النظام.
تحول مخيم الحوثيين ذاك إلى واحدة من أكبر المشاكل اليومية التي تواجه الثورة. وبعد ذلك سينقلب الحوثيون على العملية السياسية التي تلت الثورة محِيلين تمردهم العلني إلى الحصانة التي منحت لصالح. هاجم زعيمهم القوى السياسية متهماً إياها بالطغيان واللصوصية وراح يغزو مزيداً من الأرض ثأراً ضد الحصانة التي منحت لصالح. ولكي يضع حداً لتلك الحصانة فقد شكل حلفاً عسكرياً مع صالح وأسقط الدولة!
أزهق الحوثيون أرواح آلاف اليمنيين في عام الثورة الأول 2011، وخاضوا في محافظة "الجوف" أكثر الحروب ضراوة مع الجيش المؤيد للثورة التي قالوا إنهم جزء منها. بالتوازي كانت القاعدة تقوم بذات النشاط: تسيطر على الأراضي وتقاتل وحدات الجيش التي لا تفهم اللعبة، أو لا تريد أن تفهمها. كانت تلك أكبر محاولات صالح للالتفاف على الثورة وتبديدها.
نام اليمن الفقير في 30 ساحة عامة لمئات الأيام، محتفظاً بعقله ورباطة جأشه. كان الطريقان واضحين:
يريد "صالح" الاحتفاظ بملكه، فليس لديه خيارات أخرى.
ويريد "الشعب"، والشباب في المقدمة، مغادرة زمن صالح، إذ لا توجد من خيارات أخرى. لدى صالح كل شيء ليخسره وليس لدى الثورة من شيء. لا خسارة أكثر من الذي حدث بالفعل. وإذا كان هناك من أيام سوداء فقد صارت كلها ذكرى. فالأسوأ قد حدث بالفعل، وبقيت المعركة الأكثر ضراوة: أن نبني من أحجار الأسوأ مكاناً آمناً.
على طريقة الماغوط "في جيوبكم عناوين القتلة وفي جيوبنا عناوين الخصب والمطر"..
وقف اليمنيون تحت سمائهم الزرقاء. تدفقت السيول، ومع مر الأيام راكم اليمنيون مزيداً من التحدي والشكيمة والإيمان. انشقت النواة الخضراء التي صنعها صالح وشوهد رجاله وهم يهرولون إلى الساحات. لكنه بقي صامداً مستنداً إلى تشكيلات عسكرية وأمنية يديرها أقاربه، وكانت هي الثقب الأسود الذي امتص كل ما يجري في اليمن من مال قليل خلال عقود من الزمن. استند أيضاً إلى الحوثيين في مواجهة الثورة، كما سيستند إليهم عندما يقرر أن يقوم بثورة مضادة بعد ذلك. لكن حِيَله كانت تنفد بسرعة، وكانت كلمة اليمنيين ترسو أكثر.
الإلهام القادم من مصر، بزخم ثورتها الذي خطف أبصار العالم، والطريقة التي انحنى بها مبارك والمجلس العسكري أمام طوفان الجماهير علمت الطرفين: طرف الثورة، أن النصر حتمية تاريخية على "دولة العواجيز". كما علمت النظام الانحناء، فقد جرت المقادير وتغيرت الأزمان، كما اعترف صالح لذويه ليلة توقيع اتفاقية التنحي. في تلك الليلة استخدم صالح جملة معبرة: لا بد أن ننحني للعاصفة، فلن يسلم منها أحد. هكذا روى ابن شقيق صالح، الذي كان يقود أخطر التشكيلات الأمنية في البلاد.
كانت الثورة هي الكلمة الصحيحة التي عثر عليها اليمنيون واستندوا إليها. ولم يكن نظام صالح سوى واحدة من فترات الانحطاط التي ألمت بتاريخ اليمنيين، كما حدث مع شعوب كثيرة، وصارت جزءاً من الماضي. انتقلت ثورة فبراير/شباط إلى طور قصير من السياسة الهشة قبل أن تنحو في اتجاه مقاومة مسلحة. وليس ذلك مصيراً استثنائياً للثورة اليمنية. فنماذج الثورات التي آلت إلى مقاومة مسلحة تملأ كتب التاريخ. ولطالما بنت الشعوب الحرة بلداناً آمنة من أنقاض الماضي وحرائقه؛ لأجل ذلك اخترعت ميادين الحرية وأناشيدها، ونصبت التماثيل.