ما تبقى لتعز من خيارات
الإثنين, 17 يوليو, 2017 - 12:34 مساءً

تقع تعز في الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب اليمني. إلى الشمال من تعز تعيش سلاسل قبلية ممتدة حتى الحدود السعودية. داخل تلك السلسلة القبلية تشكل الحروب، بالاستناد إلى ما يقوله التاريخ حتى الأمس، الحرفة اليدوية الأكثر متانة. حتى إن الرجل لا يغدو رجلا كاملاً ما لم تكن "رائحته بارود". وقد اختبر الجيش المصري في ستينيات القرن الماضي، والجيش السعودي خلال العامين الماضيين، ما معنى أن تخوض قتالاً ضد أناس تشكل الحرب إغواءهم التاريخي.

إلى الجنوب من تعز ثمة سلسلة أخرى من القبيلة، وحواضر تهيمن عليها القبيلة باستمرار، أو تهدد استقرارها. في الحقبة الانجليزية شكلت الحامية البريطانية حائطاً ضد اختراق القبيلة الجنوبية لعدن، مفسحة المجال للحرفيين والتجار القادمين من تعز لمنح عدن الدم الساخن الذي تحتاجه تلك المدينة الأعجوبة.

المزاج الانفصالي المتصاعد في جنوب اليمن، سياسياً وشعبوياً، يشكل تهديداً وجودياً لتعز. فتعز محافظة كبيرة، يشكل سكانها ما يقرب من ١٧٪ من اليمنيين، وهي بحاجة إلى الأسواق والموانئ والمطارات والأحزاب. ولا يمكن لمحافظة مدنية الطابع، بحجم سكاني بالغ الضخامة، أن تعيش خارج أبواب الجنوب وأمام السلسلة القبلية الرهيبة إلى الشمال دون أن تختنق أو تتفكك إلى ظواهر عنف متناسلة، إرهابية أو مافوية أو خليط من الاثنتين.

وبخلاف عدن، التي لا تزال عرضة لهيمنة التشكيلات القبلية المنحدرة من الضالع وأبين، فلم تعد تعز جزءاً من أي قبيلة، ولا تحت تهديدها، لكنها مرشحة للتفكك على طريقتها. لقد توطدت فيها الحواضر المدنية خلال مراحل متتالية من الجهد الاجتماعي الجماعي. فقبل ربع قرن انتهت عملية تمدين طويلة في عدن بقتال مرير على الهوية "القبلية". بينما انتهت محاولات ربع قرن لـ "قبيَلَة" تعز بانفجار ثورة ١١ فبراير.

تنتمي تعز جغرافياً إلى الجنوب، وسياسياً إلى الشمال. لكنها محافظة تموضع نفسها ـ حتى على مستوى الخطاب الشعبي اليومي ـ داخل دالة اليمن، وتضر بها تقسيمات الجغرافيا كما تخنقها النتائج البدائية للسياسة. فهي تهاجر شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً داخل اليمن، حتى إن الأجيال الجديدة من المهاجرين التعزيين إلى جزيرة سقطرى أصبحوا يتحدثون السقطرية. ثمة ديناميكية دائمة في تعز، في عاصمتها، مدنها الصغيرة المتباعدة، كما في ريفها.

وعلى الدوام تربي الأسرة أبناءها على اكتساب الجدارة الحرفية والاحترافية حتى يصيروا قادرين على الهجرة إلى مدن أخرى والمنافسة هناك. فهي تفيض إلى خارجها باستمرار، وتخلق إنساناً صالحاً ليكون إنسان مدينة أخرى. شاهدت المُكلا نهاية تسعينيات القرن الماضي وهي تصبح، شيئاً فشيئاً، مدينة تعزية. ورأيت مظاهرة صغيرة في المدينة كان أحد قادتها الشعبويين يصرخ عبر مكبر صوت: سيظل الشمالي شمالياً والجنوبي جنوبياً حتى قيام الساعة. لكن التعزي في المكلا، آنذاك كما هو الآن، يتحرك خارج تلك التقسيمات، فهو صاحب حرفة يبحث لمهارته عن مشترٍ، ويصبو لتحويل معرفته إلى مادة.

في العام ٢٠٠٧ رفعت حوالي ٢٧١ شخصية جنوبية رسالة إلى الرئيس السابق صالح، كما نشرتها صحيفة الأيام ذلك الحين. كانت الرسالة تتحدث عن السطو على ٤٢ ألف قطعة أرض في المنطقة الممتدة من لحج إلى عدن.

تقول الرسالة "ناهيك عن الأراضي الواسعة التي نُهبت في حضرموت وشبوة". بعد ذلك قالت لجنة شكلها صالح، برئاسة باصرة، إن واحداً من كل ثلاثة ممن نهبوا الأرض في الجنوب هو جنوبي. لقد أدت الحرب التي خاضها "كل الشمال، وثلاثة أرباع الجنوب" ضد الجنوب، بحسب تعبير عيدروس النقيب، إلى وضع في الجنوب تصبح فيه تعز هي أكبر الخاسرين.

في الجنوب يجري الحديث عن البرابرة الشماليين، المهوسيين بسرقة الأراضي والموانئ. على الأرض، في الشوارع والمؤسسات، لا تجد أولئك الشماليين البرابرة، فقط يمكنك رؤية حرفيين تعزيين يحملون مهارة تزيد أو تقل على أكتافهم، غير معنيين بذلك المستوى من الصراع. وبطريقة ما فإن على أولئك الحرفيين المُحايدين أن يدفعوا الثمن نيابة عن البرابرة.

قبل عشرة أعوام نشر ياسر العواضي مقالاً على مأرب برس قال فيه إنه التقى في فندق عدن شيوخاً من عمران، قالوا إنهم متواجدون في المدينة لتسوية خلافاتهم البينية حول أراضي ثمينة في عدن. فاللصوص، الذين تسببوا في صناعة الأزمة على ذلك النحو المأساوي، كانوا وسيبقون خارج دائرة الضوء. وفي أفضل الأحوال كان ممكناً رؤيتهم لدقائق بسيطة في بهو فندق عدن، أو فنادق أخرى خارج الحدود. ففي مقابلة أجرتها المجلة الشهرية الكندية "فايس"، المتخصصة في شؤون الجنس والعنف والمخدرات، مع تاجر جنس أوكراني يعمل في دبي قال الرجل للمجلة إن شيخاً يمنياً طلب إلى جناحه الكبير في الفندق ثلاثين امرأة أفريقية ومقداراً من الفياغرا "كافٍ لقتل فيل"، طبقاً لكلمات التاجر. على الحرفي التعزي أن يدفع الضريبة نيابة عن أولئك التايكونات البرابرة، وأن يطرد خارج أرض الجنوب بوصفه "دحباشياً" يسرق اللقمة والأرض، وأن تدفع قبائل الشمال المزيد من رجالها لقتاله بوصفه داعشياً، كما تقول التعبئة الهاشمية/ العفاشية في الشمال.

كانت ثورة ١١ فبراير اختراعاً تعزياً، في الأساس، وبقيت كذلك فيما بعد عندما ذهب الآخرون يتساءلون عن جدواها، وقد حدث كل هذا الخراب في السنوات التي تلتها. فلا يمكن للمحافظة الكبيرة أن تعيش بملايينها الديناميكية سوى ضمن دولة يسودها القانون وتبقى أبواب كل مدنها مفتوحة. المحافظة الكبيرة بحاجة إلى وطن كبير تعيش بداخله، وكانت ١١ فبراير اقتراحاً جماهيرياً كبيراً سرعان ما التحق به قطاع واسع من اليمن، بما في ذلك جزء من القبيلة.

استطاع الحوثي، مدعوماً بطبقة واسعة من الهاشمية المدينية، إنعاش المذهب الزيدي في الشمال. صعد الحوثي بالمذهب لدرجة جعلت منه مذهباً محارباً أو مستعداً لخوض الحرب متى ما أذن له سيد هاشمي. عمل الحوثيون على استبدال المناسبات الجمهورية بمناسبات مذهبية، واستطاعوا تفريغ الجمهورية لصالح المذهب، وكان صالح معيناً لهم في ذلك. فالجمهورية جزء من المذهب، وليست مهيمنة عليه، في تقدير صالح للجمهورية. هذه الصورة المتبقية من الجمهورية سيتعذر على تعز أن تكون جزءاً منها. وبعزلها عن الجنوب فإن شكلاً متوتراً من العلاقة، ربما تكون الطائفية إحدى محركاتها، هي ما سيطبع اتصال تعز بالجمهورية في الشمال. ستتورط تعز في علاقة استنزافية مع الشمال، بشكل ما.

ولأن الجنوب مرشح لأن ينزلق إلى قبيلة أو جمهورية خوف، فإن نظاماً فاشوياً في الجنوب، ملامحه آخذة في الظهور، سيغلق كل الأبواب في وجه تعز، غير عابئ بشيء. سيبقى الشمال متجهاً إجبارياً أمام تعز، ولكنه شمال آخر، مفرغ من القضايا المركزية التي خاضت الحركة الوطنية صراعاً لأجلها.

يشكل انفصال اليمن تهديداً مصيرياً لتعز، على نحو خاص. ولا يمكن لتعز أن تقف على قدميها ما لم تكن مستندة إلى عدن، وما حولها. فقد بنَتْ تعز لنفسها عمقاً هناك على مدى مئات السنين، حتى إن محكية محلية مشتركة طبعت تلك العلاقة.

المزاج الانفصالي المتنامي في الجنوب، والطابع المذهبي الآخذ في التمدد شمالاً يضعان تعز في عزلة، ويطبقان عليها الحصار. ينكر الجنوب يمنيته، ويحول الحوثي شمال اليمن إلى مذهب. وفي الفالق بينهما تقف تعز، تقاتل بمرارة دفاعاً عن اليمن الذي تعرفه.

*مدونات الجزيرة

التعليقات