من منا لم يكن واقعا تحت تأثير سلطة المركزية المطلقة من بداية التسعينات الى منتصف الألفية، فقد كان أغلب الظن أن الحديث عن الحكم المحلي واسع النطاق هو دعوة للانفصال، ناهيك عن الحديث حول الفيدرالية فهي الانفصال عينه، كانت "ثقافة حقي، وثقافة الوحدة هي الموت هي الغالبة" على مزاج الناس، لكن بالنظر إلى عمق دولة "المركزية" لم يكن هناك شيئا مميزا لمن يعيشون حول المركز، القبائل المحيطة بالعاصمة لم تكن تحصل على شيئا مهما، وشظف العيش هو الجامع بين الناس، ويكثر هناك قطاع الطرق أو ما اصطلح عليها "بالقطاعات القبلية"، المهم هو التفاخر بالقبيلة حاشد أو بكيل، وفي النهاية فقر وجوع وتخلف ولا تنمية ولا خدمات في اقرب محافظة إدريا من العاصمة.
خرجت في مهمة عمل خاصة من صحيفة الثورة أيام "مولانا أبي عبدالله علي ناجي الرعوي، وأبي هشام عبد الرحمن بجاش عليهما السلام و قدس الله سرهما"، وذهبت فرحا ببدل السفر، والسفر القريب الذي لم استطع تحديده إلى أين بالضبط، لا يوجد مكان في البلاد اسمه محافظة صنعاء، وقرحت "البقش" جوا في ترعلة ما بين بني الحارث وسنحان وبني مطر، فتشت عن المشاريع ولم أجد، فقلت ربما تكون المشاريع في الحيمة، فاتصلت بصديق أخبرني أن لا تتعب نفسك " صنعاء بكت والحيمتين حزينة"، وراودني الشك ربما يكون هناك مشاريع في مناخة، لكني ذكرت أني سافرت ما بين صنعاء الحديدة ونزلت هناك على الطريق لتناول الغداء، كان الوقت متأخرا تقريبا الساعة الثالثة بعد الظهر، لا مطاعم لا خدمات، دكان قيل لي أنه مطعم، فسألت الحاج به غداء يا حاج؟ قال تشتي لحمة؟ قلت عز الطلب، فاخرج لي قدر صغير فيه لحم مطبوخ، وقال هذه اللحمة، فنظرت في وجه الزميل عادل حويس وقلت له: " ما مرامه هذا الحاج؟" وقال امشي ومشينا قال: "هذا شكل عياله ما رضيوش يأكلوا هذه اللحمة على الغداء فقرر يبيعها لك"، ضحكنا، ومع بسكوت أبو ولد طاب لنا السفر.
الشاهد هنا أني خرجت يومها بخلاصة مفادها أن محافظة صنعاء مظلومة أكثر من غيرها، كانوا يحتفظون بها بلا تنمية حتى تظل ترفدهم بمرافقين وجنود جهلة إلى الأبد، كان القاضي المرحوم محمد يحيى مطهر عضو مجلس النواب في التسعينات قد نصح الحكومة أن تهتم بتنمية تلك المناطق مع مناطق عمران بقدر ما تجنيه من هناك عبر ضرائب القات، لكن لا أحد في دولة المركز الرخوة لديه الاستعداد للتنازل عن البشمرجة والمرافقين لا الشيخ ولا الفندم.
المركزية الرخوة لم تحقق تقدما في مسألة الدولة، بل جلبت الويلات للقبيلة والدولة في كل محافظات الجمهورية، "من ينتظر من المركزية المتخلفة بناء المؤسسات كمن ينتظر جبن أبو ولد من الدجاجة"، والبقاء على هذه المركزية التي تحارب المناطقية بدعوى العصبية والوحدة كان مستحيلا، جاءت ثورة 11 فبراير 2011 لتضع حدا لعبث المركزية.
في منتصف 2011 كنت قد اقمت مع زملاء في اتحاد الطلاب بماليزيا ندوة في جامعة يو تي ام في ولاية جهور بارو " جوهرة البحر" في أقصى الجنوب الماليزي، تحدثت في جزء منها عن الفيدرالية، وكررت الندوة في جامعة ابت القريبة من العاصمة، كنت كمن يتحدث عن الخيال، لا أنا مستوعب اننا سنصل في البلد إلى ما أقول، ولا الزملاء الذين تعرضوا لفكرة من الخيال، لكن مؤتمر الحوار كان قد وصل إلى ضرورة، التحول إلى النظام الفيدرالي.
هذه الحرب أيضا رسخت مفهوم الفيدرالية بشكل كبير، فقد دخلت الأقاليم اليمنية في هذه الحرب مع عصابة أساس حربها هو رفض الفيدرالية، بغرض الاستحواذ الكامل والدائم لمقدرات البلاد، والحرب، وصار لكل إقليم جيش من أبنائه، هذا الجيش هو النواة لجيش اليمن الاتحادي، في النهاية الحرب ستنتهي، والطريق نحو الشراكة والتنوع والتكامل هو ما سيقود إلى نهضة البلاد.
يدرك مزارعو وتجار الطماطم في تهامة ولحج وابين وذمار معنى التنوع في الأقاليم اليمنية، على مدار العام، بينما ينكر لهذا التنوع بعض الساسة الجهلة أيمانا منهم بأنهم قد قالوا كلمتهم في الفيدرالية بأنها مشروع أجنبي لتقسيم اليمن، غير مدركين أن تقسيم أو وحدة اليمن لا تعني للأجنبي شيئا فمصالحه ستظل كما هي محفوظة ولن يمسها أحد، وهذا ما أشار إليه الرئيس السابق صالح في مقابلته مع البي بي سي، وهو قائد أكبر مليشيات دينية إرهابية في البلاد ويقف ضد السلطة الشرعية ويسعى إلى انهاء الجمهورية وإعادة الإمامة بكل ما اوتي من قوة، والذي بشر الامريكان زالرئيس ترامب أن مصالحهم في اليمن محفوظة لديه.
إن التنوع في مستوياته المتعددة: المناخي والجغرافي والثقافي السكاني، وكذا التعدد في الموارد يمثل عامل مهم لإرساء قواعد البناء والتنمية المستدامة التي ستحتاجها البلد في كل المراحل القادمة، والاستفادة من التنوع والتناغم في التنوع في الأقاليم وعلى مستوى اليمن الاتحادي سيقودنا إلى الشراكة الحقيقة، وتكافؤ الفرص بين الإقليم، بدلا عن المركزية التي طحنت الجميع، وخسرت الجميع، ولم يستفد منها سوى مجموعات من اللصوص وقطاع الطرق من هنا وهناك.
بالنسبة لمشكلتي المناطقية المزعجة والمركزية الفاشلة فإن الفيدرالية هي الحل الأمثل، وبها سنتجاوز الماضي ونبني المستقبل، خاصة بعد بناء الثقة والدخول في مرحلة الاستقرار واستعادة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها على أسس علمية معاصرة، ومن ثم التحول إلى النظام البرلماني في الحكم، وتحول مسمى الرئاسة إلى شكل سيادي للدولة لا تنفيذي، باستطاعتنا تحويل مسألة الرئاسة إلى ما يشبه المعالجة لأمراض المركزية، وذلك بانتخاب الرئيس كل خمس سنوات من إقليم من الأقاليم الستة، ويتم تدوير منصب الرئيس على الأقاليم الستة بالتوالي، حتى يشعر الشعب بالرضى والمساواة والعدالة ، ويتغير تفكيره نحو الدولة والحاكم، ونستطيع أنهاء النزاع بين المواطن والدولة إلى الأبد، لاشغال الشعب بمسائل تتعلق بالرفاهية وقيم العمل والسوق بدل الغرق في تفاصيل السياسة وانتظار الوظيفة والمنصب.