اليوم، وقد بلغ السيل الزبى، وطحنت الأجساد العربية تحت آلة القتل بسبب أو من دون سبب، حق لنا أن نتوقف برهة لنعيد إلينا وعينا المسروق منا قبل أن تجتر جنازير الإبادة الهوجاء ما بقي من عالمنا العربي المغدور.
لن أستعيد وقائع التاريخ وحكاياته لإقناعكم أن الهجمة الغاشمة ليست بين عربي وعربي ولا مذهب ومذهب، بل هي لعبة جذورها ضاربة في عمق التاريخ. هي حرب عناصر عرقية تفوح منها رائحة الدم لأجل ثارات قديمة وحروب ضروسة هزت أقفال أبواب العالم وفتحته بقوة إلى أقصى معقل الفرنجة.
التاريخ لا ينسى، ومدارس الكنيسة لا تزال تدرس أبناءها في صفوفهم الأولية حروب الأغيار الهمج المسلمين الذين أرعبوا الأديرة وهددوا الكنائس وتمجد حروبهم الصليبية، هذا من جهة الغرب، أما من جهة الشرق فلم تبرح الذاكرة بما يشبه الإعجاز تقويض ممالك فارس وإسقاط عروش بيزنطة.. أي هذا العربي الذي وطأ بنعليه إيوان كسرى حاملا دعاية الإسلام واضحة ومرّغ رؤوس ملوكهم بالتراب وأطفأ نيران المجوس وهدم تماثيلهم ومنحوتاتهم.. أي هذا العربي الذي وصل إلى عمق الإمبراطورية الرومانية واقتص منها مدائن وأقام فيها دولته. أي هذا العربي الذي قاوم الصليبيين ببسالة حتى أخلى منطقة الشرق الأوسط منهم وكنس أثرهم. أي هذا العربي الذي قاوم المغول والتتار واستعاد منهم الممالك العربية. أي هذا العربي الذي بسط نفوذه في الهند والسند وأعلى مبادئه ونشر دينه فيها. أي هذا العربي الذي قاتل إلى جانب الأفغان بشراسة وكسر شوكة السوفيات حتى خرجوا منها صاغرين يجرون أذيال الهزيمة. أي هذا العربي الذي لا يزال بتاريخه وثقافته غصة في الحلوق تشهد بها كل المدائن العربية، فهي لا تزال تحتفظ بذاكرة هذا الانتصارات التاريخية.
العقول المدبرة لهذه الحروب الغاشمة المفتعلة التي تدار رحاها قريبا منا اليوم، لا تزال عينها على المشرق بوصفة لوثة تاريخية في جبين محاربي الأمس، فواتير تاريخية حق سدادها يجب أن تعفر جباه العرب الذين اكتسحوا العالم ليس بالسيف وحدة، بل بالمبادئ الإنسانية العادلة حتى وصلوا إلى أقصى القرن الأفريقي ودول شرق آسيا والمحيط الهندي.
أيها العربي لن تجد تفسيرا منطقيا لكل هذا التدمير والقتل والإبادة والعبث سوى أنك عالق بمشجب داخل إضبارة تسمى عربي مسلم، هذا يفسر لنا تكتل قوى الغرب مع الشرق الروسي وبقايا الفرس الممثلين بادعاء فج وكذوب لشرف آل البيت عليهم السلام وهم منهم براء. هؤلاء المتمرسون على أساليب المؤامرة وحياكة الدسائس ضد العرب وممالكهم، حتى آخر مراجعهم الذي باع العراق بحفنة دولارات للغزاة الجدد، فالتاريخ يدون علاقاتهم الوطيدة مع كل غزاة الأرض للمشرق العربي، فقط لأجل تدمير هذا العربي الذي يحمل قداسة لغة القرآن وقداسة أرض الرسالات.
لم يكن العرب (سنة وشيعة) يوما ما عبر كل العصور في احتراب قبل أن تمتد إليهم أيدي الدخلاء، وتنزع عن قلوبهم غطاء الرحمة وتزرع بينهم بذور الفتنة، لأجل تحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية، أولها: تدمير البنية التاريخية والحضارية في أكبر الحواضر الإسلامية العربية التاريخية (العراق وسورية) اللتين انطلقت منهما شعلة الحضارة العربية الأولى مع طلائع الفتح التي غيرت وجه الأرض.
الهدف الثاني: ضرب كل المثل والقيم الإسلامية (شيعية وسنية) وإدراجهما تحت مظلة واحدة كتب أعلاها إرهابيون، بعدما استخلصت جماعات من هنا وهناك أقل ما يقال عنها أنها مهتوكة الروح والنفس والعرض بعيد إسقاط نظام صدام حسين، لتتجه السياسات إلى مرحلة الانتقام وتصفية الحسابات المتمذهبة. لنسأل بوضوح من أعطى القادة الجدد من إرهابيي حزب الدعوة الصلاحيات كاملة لإدارة عجلة القمع والقتل؟ من تبنى جماعات رد الفعل، وأوجد لها كيانا، وألقى عليها بظلال المشروعية، ودعمها بالأموال والعتاد والرجال، ثم أوقفها على خريطة أسموها (دولة الخلافة الإسلامية في الشام والعرق)؟ من أوجد كل هذه البلبلة حتى وقف العرب موقفا لا يحسدون عليه وهم يرون المدن التاريخية العربية تباد عن بكرة أبيها تتجاذبهم اتجاهات متعددة «مع وضد»، وقد تجد اللعبة تتغير، فـ«المع» يتجه ليقف مع «الضد»، و«الضد» يرفض حتى «الضد».
هذا ليس لغزا عصيا على الفهم؛ لأن الإدارة الجبارة التي تقف وراء هذا كله تجيد اللعب بمهارة، فهي من أسس لـ«داعش» وجهز جيشه بكل شيء وسهل له مرور عرباته، وهي التي كون الجيش الشعبي وزوده بالعتاد والسلاح لاقتحام الموصل، وهي التي خولت روسيا وإيران بأعلى قدر من التسامح لاقتحام أتون المعركة ودعم نظام الأسد، وأعطى لـ«حزب الله» إشارة الانضمام في لعنة هذه الحرب وهي على مقربة من العدو الصهيوني الذي يعلن عن مخاوفه من سقوط الأسد.
طائرة إسرائيلية واحدة تقصف الجنوب اللبناني كانت تكفي لإيقاف «حزب الله» على قدم واحدة وتعيدها إلى حيث كانت، ومع ذلك لم تفعل! كل هذا وغيره يكشف تلك الحقائق الواردة أعلاه والنتيجة المرجوة هي استئصال شأفة العرب ودينهم الذي يرونه اليوم يتمدد في العمق المسيحي، هل رأيتم كيف بدأ الإسلام يكتسح أوروبا؟ أليس هذا يعيد استشعار الرعب من اختراق الكفار الأغيار أو بتعبير آخر «السراسنة» كما تصفهم أدبيات الحروب الصليبية إلى عمقهم الثقافي والحضاري من دون حرب؟ أليس هذا ما يؤكد لهم قراءة بعض فلاسفتهم ومفكريهم لمستقبلهم، وأن الإسلام العربي سيسود هذه الدول لفساد أنظمتها الرأسمالية؟
أعلم جيدا أن منكم من يمجد الحضارة الغربية، وأنا كذلك أمجد كثيرا منها؛ لأنها الأساس الأول الذي سيعطي الإسلام تذكرة العبور إلى حياة الناس، لأنه يجمع في محتواه البعدين الروحي والمادي ويعيد علاقاته بنفسه والآخرين وفق رؤى مختلفة تنتزعه من الوحشة نتيجة العزلة التي يعيشها. فهل برأيكم أن كل ما يحدث هو بداية لانكشاف حقيقة المؤامرة التي كنا وما نزال نكره التصديق بها مخافة الانسياق وراء ما جاء في «أحجار على رقعة الشطرنج»؟
*الحياة اللندنية