[ غياب الصحافة المتخصصة اصطدم بالعديد من العوامل - الموقع بوست ]
يعمل الكثير من الصحفيين اليمنيين اليوم في حقول صحفية متنوعة دون سلوك شأن تخصصي بعينه في الصحافة، ويتعدد انشغالهم في حقول شتي، متوزعة على الكثير من شؤون الصحافة، فتجد من يكتب في السياسية والثقافة والاقتصاد والبيئة والفنون معا، عابرا الكثير من ألوان وتخصصات العمل الصحفي، بل وتمضي حياته المهنية في تأرجح بين شؤون متعددة ومتفرقة لا تقتضيه الصحافة الجادة، بقدر ما تفرضه شروط الواقع الصحفي في اليمن، بفعل الحرب التي دفعت لتلاشي الحريات وأوجه النشاط المدني المختلفة.
ويمثل ذلك الظرف عائقا كبيرا أمام ازدهار الصحافة المتخصصة، بل والصحافة بجملها كأحد أشكال الحرية والحقيقة، الأمر الذي ينعكس سلبا على مسألة التخصصية لدى الصحفي اليمني الذي قد يلبث كثيرا في حياته المهنية يعمل في شؤون متعددة دون اتباع شأن تخصصي بعينه، هذا إن تيسر له العمل في حقل الصحافة أساسا، وهي ظاهرة تستحق التوقف والاهتمام.
تتمحور مشكلة التخصصية في الصحافة اليمنية في جملة من الأسباب يتعلق بعضها بقصور في نهج المؤسسات الصحفية، ويرتبط قسم ثان منها بمشكلات تتعلق بالسياق العام الذي تنشط عبره الصحافة اليمنية، في حين يعود القسم الثالث من الأسباب للصحفي ذاته.
يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على ظاهرة غياب الصحافة المتخصصة في اليمن في سياق محاولة الفهم، دون ادعاء الشمول والإحاطة.
اضطرار مهني
يرى الصحفي جمال حسن في تصريح إلى "الموقع بوست"، أن الصحفي اليمني لا يملك اليوم رفاهية الاشتغال على شأن تخصصي بعينه، لما قد يتطلبه ذلك من تضحية كبيرة في الوقت والجهد، قد لا تثمر كثيرا، مؤكدا أنه يشتغل على المتاح في بيئة العمل الصحفي بغير ما توقف على شأن بعينه، على الرغم من أن انهماك الصحفي في انشغالات متعددة يعيقه عن أن يكون خبيرا في شأن بعينه.
ويؤكد أن الصحفي محكوم كذلك بمصادر الدخل المالي، وهو يعمل وفق ما يقتضيه ذلك غالبا، مشيرا إلى أن التوقف على شان تخصصي بعينه لا يكون مجزيا في الغالب، لا ماديا ولا معنويا، هذا إلى جانب ارتباط التخصصية بعوامل كثيرة يعتمد جزء كبير منها على المؤسسات الصحفية اليمنية وبيئة العمل، وهي بالطبع تلقي بظلالها سلبا على مسار عمل الصحفي.
اقرأ أيضا: اليمنيون ومواقع التواصل الاجتماعي.. حضور مضطرب وسط استقطابات حادة
وطبقا لحسن فإن مسألة التخصصية لدى الصحفيين اليمنيين تقف على رحى مشكلة كبيرة تعود للصحفي ذاته والمؤسسات الصحفية ومناخ العمل الصحفي في اليمن كذلك، ورغم تشديده على أهمية تركيز الصحفي على جانب تخصصي بعينه، لكنه يرى أن الصحفي مهما التزم بالتخصصية سينحو بالضرورة صوب مسار ميكانيكي، يشمل العمل فيما هو تخصصي من شؤون وما هو متعدد وعام، مؤكدا أن ذلك جزء ضروري من عمل الصحفي.
أهمية مفقودة
أما الكاتب الصحفي أحمد الأغبري الذي يشدد على ضرورة أن يخلق الصحفي لنفسه مسارا تخصصيا محددا لإحداث أثر مهني ملموس، فيرى أن الصحافة اليمنية لا تزال تفتقر إلى رؤية مؤسسية مهنية واعية تؤمن بالتخصصية وأهميتها، لذا فإن مهمة الصحفي اليمني الذي يقرر اتباع التخصصية ستكون عسيرة في ظل ذلك، على أنها مهمة لا بد أن يؤمن بها كل صحافي، لأنها المحدد للمسار المهني للصحفي.
الأغبري يضيف في تصريحه لـ "الموقع بوست": "إذا لم تكن صحافيا متخصصا فإن وجودك المهني سيظل مشتتا ومحصورا بدائرة ضيقة، لن تستطيع من خلالها أن تترك أثرا مهنيا ملموسا، وسوف ستكون عابرا"، أي محدود الأثر، ويشير في ذات الوقت إلى أن الإعلام اليمني لا يبحث عن الصحافي المتخصص المحترف، ولا يمنحه التقدير المهني والمادي اللائق، ولا يولي الشؤون التخصصية، كالثقافة والرياضة والعلوم، أهمية وخصوصية تذكر، فهو لا يزال يتعامل معها كجزئية تكميلية لصورته التبويبية إلكترونيا أو ورقيا.
خيارات بديلة
بالنسبة للأغبري فذلك تحديدا هو ما دفعه للاشتغال وهو المتخصص في الشأن الثقافي لصالح منصات نشر خارجية، منها القدس العربي، منذ بداياته الصحفية الأولى، يقول: "صحيح أن الصحافة الخارجية لا تمنح أجرا لائقا بما يتطلبه العمل في الشؤون الثقافية، لكنها تمنح الصحفي تقديرا مهنيا واهتماما يدفعه للاستمرار في الكتابة، لا سيما إذا كان شغوفا بمجاله التخصصي"، وهو الأمر الذي ينطبق عليه، ويؤكده بأنه يكتب بدافع من حُبّه وافتتانه بتراث وآداب وفنون وأعلام بلده اليمن.
يقول الأغبري إنه يشعر بالرضا في عمله بشأن تخصصي، وهو الثقافة، ليس لكونه يجني من خلفه عوائد مجزية، بل بسبب مما يلمس من حضور لثقافة بلده على منصات صحافية عربية ودولية تصل أصداؤها للعشرات من البلدان.
اقرأ أيضا: بين هَم العودة ووضع ما بعد التخرج ... الحرب تضاعف معاناة الطلاب اليمنيين في المهجر
ويرى في تصريح لـ "الموقع بوست" أن الاحتراف في الشؤون التخصصية، لا سيما صحافة الشؤون الثقافية يتطلب جهدا مكثفا يحتم إيلاء التخصص أهمية قصوى، انطلاقا من القراءة الواسعة المتواترة والمتابعة والمواكبة المتواصلة، وصولا إلى التسلح بخلفية مرجعية ورؤية واعية ناقدة تُسند اشتغال الصحفي في مجاله، غير أن الصحفي اليمني في الغالب لا يجد التحفيز الكافي للمضي في تلك المشقة التي لا تحظى بالتقدير لدى الصحافة المحلية، كما يرى بعض الصحفيين الذين استطلعنا آرائهم.
مناخ نابذ
من ناحيتها تطرُق الأستاذة في قسم الصحافة بكلية الإعلام - جامعة صنعاء، مها الحكيمي، مشكلة التخصصية من ناحية السياق العام الذي تنشط عبره الصحافة اليمنية، وتقول: "ليس يسيرا على الصحفي أن يتخصص في شأن بعينه ما لم تتوفر في الصحافة اليمنية البيئة الملائمة التي تساعدها على التطور والعمل بمهنية ومصداقية واستقلالية، وبتحقق ذلك فقط سيكون بوسع الصحفي أن يتخصص بمجال معين من شؤون الصحافة، بما يتسق مع رؤيته وأهدافه".
وترى في حديثها لـ "الموقع بوست" أن وضع الصحفي، المهني والمادي والنفسي والأمني، اليوم بات مزريا في ظل الظروف التي تعيشها البلد، وذلك ما يدفعه للعمل وفق ما يتيحه له الواقع ومقتضياته، مؤكدة أن التخصصية لا تشكل اليوم أهمية كبيرة لدى الصحفي في ظل الاستحقاقات القاسية للواقع، فالظروف الصعبة الراهنة تدفعه للعمل وفق المتاح، كما لا يمكنه العمل دون مراعاة لحساسية السلطة الحاكمة ونسبة الحرية التي تتيحها للصحافة في المنطقة الجغرافية التي يعمل منها، وكذا نوع ومحتوى المواد الصحفية التي يختار العمل عليها، وهذان بُعدان استجدا مؤخرا بفعل الحرب التي خلقت سلطات متعددة في مناطق مختلفة من اليمن، توجب على الصحفي مراعاتهما كي لا يتعرض للأذى أو الخطر، هذا إلى جانب دور العائد المادي الذي يتلقاه الصحفي الذي يلعب دورا في تحديد مساره أيضا، والذي لا يوفر له إمكانية لتركيز الاهتمام في شأن تخصصي بعينه.
وطبقا للحكيمي فإن تغطية شؤون الحرب والأوضاع السياسية هي من يتصدر نشاط الصحافة في الظرف الراهن، وبدرجة أقل تأتي الشؤون الإنسانية والاقتصادية، في حين غدت كل الشؤون الأخرى المتبقة أقل حضورا وأهمية، وذلك -في نظرها- عامل سياقي آخر يدفع الصحفي للاشتغال وفق ما يفرضه مناخ العمل دون اكتراث شديد للتخصصية.