[ الدكتور الأحمدي حقق العديد من الكتب التاريخية اليمنية ]
العيش في رداع يجعلك تعرف من أنت، ففي قيفة بمدينة رداع التابعة لمحافظة البيضاء أماكن تُشعرك بالانتماء والبقاء، الانتماء للآباء والأجداد، ومعالم مجدهم ناصعة المقام، من نقوش، وسدود، وقصور، جميعها تشدّ ذاتك إليها، وتعلّمك الوفاء لها وتخليد أثرها.
هكذا بدأ المحقّق والباحث الدكتور مقبل التام الأحمدي، أحد أبرز أعلام اليمن في التّنقيب عن تاريخها وتوثيقه حديثه لـ "الموقع بوست" ليسرد قصة عمره وجهده ومداد الكلمات التي عمل عليها طمعًا في الحفاظ على تراث اليمن، وتحقيق العديد من كنوزها الأدبية والتاريخية، وإعادة الاعتبار لروحها الحضارية، وما عني به من جهد للتراث وللغة وللتاريخ.
من هو الدكتور الأحمدي؟
ولد الأحمدي في قرية الرّوق، إحدى قرى آل أحمد التّابعة لمدينة رداع بمحافظة البيضاء، ونال منها ما نال من عشق الأرض، وترابها وكفاح الآباء ونضالهم في سبيل الدفاع عنها، إذ ينحدر الأحمدي من أسرة سبتمبرية، فـوالده هو الشيخ التام عامر الاحمدي الذي كان أحد أبطال ثورة الـ 26 من سبتمبر، وابن عمّه الشهيد علي محمد الأحمدي، عضو مجلس قيادة ثورة الـ 26 من سبتمبر وأحد شهدائها.
تلقى تعليمه الأول في مدرسة (المتار) ببلاد قيفة التي كانت مساكن لِحِمْيَر في القدم، ودفع شغفه بالعلم والتعلم معلميه الذين كانوا من مختلف الأقطار العربية، ومتعددي المستويات الفكرية والثقافية والعلمية، دفعهم للاهتمام به وحسن توجيهه، ثم انتقل إلى مدينة رداع التي كانت عاصمة اليمن في الدولة الطاهرية، واستكمل الثانوية هناك في مدرسة (فيصل) بجوار المدرسة العامريّة التي كانت من أهم المدراس الأثرية في اليمن، وكان متفوّقًا على زملائه في دراسته منجزًا تحصيلًا دراسيًّا ومعدّلًا علميًّا أهّله للابتعاث حيث كانت وجهته الجمهورية السورية، وبالرغم من أن التّخصص الذي ابتعث لدراسته كان الهندسة، إلا أن شغفة باللغة والتاريخ دفعه لتغيير تخصصه إلى (الأدب العربي) ، وأكمل مشوار الدّراسة بجامعة دمشق، ثمّ ليبيا ولبنان، ثمّ دمشق مرة أخرى.
حصل الاحمدي على الدّكتوراة في الأدب القديم بمرتبة الشّرف من جامعة دمشق عام 2007م، عن أطروحته (شُعراء حِمْيَر، أخبارُهم وأشعارُهم في الجاهليّة والإسلام)، وقبلها نال الماجستير من الجامعة اللُّبنانيّة 2002م، عن أطروحته (شعراء مَذْحِج، أخبارهم وأشعارهم في الجاهليّة)، وقبلهما حصل على إجازتين، الأولى في الدّراسات الإسلاميّة واللُّغة العربيّة من ليبيا عام 1994م، والثانية في اللُّغة العربيّة من جامعة دمشق عام 1997م.
ومثّلت حالة الغليان الفكري والمعرفي التي عاشها في الشام بالغ الأثر في تعزيز هويته وقوميته، إذ كانت جامعة دمشق، بما تمثّله من قيمة علميّة ومعرفيّة، رافدًا قويًّا، ومنبعًا غزير الجريان، لطلبة العلم عامّة وشُداة العربيّة وعلومها خاصّة، لأسباب كثيرة، أبرزها الإحساس العالي بالعربيّة هويَّةً ولغةً، بالإضافة لاحتضانها لطبقةً كبيرة من أساطين العلم في مختلف التّخصّصات.
عمل أكاديمي وطموح في صنعاء
عاد الأحمدي إلى اليمن بعد نيله الدكتوراه من جامعة دمشق، وتم تعيينه عضو هيئة تدريس بقسم اللّغة العربيّة وآدابها بجامعة صنعاء 2009م، ودرّس فيه الأدب الجاهليّ وعَروض الشّعر وموسيقاهُ، وتحقيق المخطوطات لطلبة الدّراسات العُليا.
يقول الأحمدي للموقع بوست: "عندما عدت من الشام إلى صنعاء، كان نصاب المحاضرات في جامعة صنعاء أربع محاضرات في الأسبوع فقط، بينما عندما كنت في الشام كان هناك نصاب تدريب، ونصاب دوام مكتبي، ونصاب كتابة بحثية، ونصاب أنشطة، فشعرت بحجم الخواء الذي لحق وسيلحق بالوعي اليمني مُستقبلًا إن لم يكن هناك دور دافع باتجاه المعرفة والثقافة والتاريخ".
ويردف: "كانت أبرز مصاعبي أنني وجدت نفسي وحيدًا عندما أردت أن أكون باحثًا عن التاريخ، لأنه لم تكن هناك منظومة تُعنى بتراث اليمن لأنضم إليها، وهو ما برهن لي أن الهوية اليمنية هوية مفقودة من حيث الدعم الملموس، إضافةً إلى أن معظم مصادر التاريخ اليمني غير موجودة في اليمن، المصادر في اليمن يتيمة، أي إنك إن وجدت مصدرًا تجد المطبوع لا الأصل، كما أن تراث اليمن المخطوط قليلٌ بالقياس على مصر وتركيا وغيرهما، وما كان موجودًا تم إخراج أنفسِهِ وتهريبه".
ويواصل: عندما بدأت أتحدث عن البحث عن التاريخ وتوثيقه مع الدكاترة في جامعة صنعاء، أدركت أنني أعمل على فكرة الضدّ، لأنّ بناؤهم كان توافقيًّا في زمن يحتاج فيه اليمن إلى البعث والإحياء وإعادة الاعتبار، وهو ما دفعني للعمل على إيجاد بيئة جديدة صالحة للتحصيل العلميّ والمعرفيّ بعيدًا عن الإطار التقليديّ الّذي لا يختلف عن التعليم ما قبل الجامعي، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس (مجمع العربية السعيدة)، ليكون رافدًا للوعي اليمني عبر العمل المؤسّسي.
ويضيف: تحدثت مع الدكتور عبدالكريم الإرياني، رحمه الله، عن ذلك، وأعددت تصورًا للمشروع وفقًا لمنظمات المجتمع المدني، وقدّمته لوزارة الثقافة وتمت الموافقة عليه، وجهزنا المقر وبدأنا العمل، وكان عبدالكريم الإرياني رئيسًا فخريًا، وأنا الرّئيس التّنفيذيّ، وكانت أهداف المجمع، الأَخْذ بيد النَّشء وتعريفُهُ بمفاخرَ أسلافه وإسهاماتهم في الحضارة الإنسانية، وكَشْف خبيئة تاريخنا المحجوب، إمّا بالإقصاء وإمّا بالإهمال وقلّة الاعتناء، وترسيخ الإحساس بالهُويَّة الوطنيَّة والعربيّة، وتحقيق التُّراث وبَعْثِهِ حيًّا طيِّبا، ولا سيّما التُّراث اليمنيّ الغابر والنادر والنفيس.
التاريخ والهوية محور الاهتمام
فاز الأحمدي بجائزة رئيس الجمهورية للبحث العلمي لعامين متتالين 2010 و2011، وفي العام 2012 صدر قرار رئاسي بتعيينه وكيلًا لوزارة الثّقافة لقطاع المخطوطات ودور الكتب، وظل في منصبة حتى العام 2016م، ومنذ تعيينه باشر الدكتور العمل على هيكله القطاع وتأهيله، باذلًا ما أوتي من تحصيل وخبرة عملية للعناية بالمخطوطات وإخراجها إلى النور، فحوّل دار المخطوطات إلى قبلة للزائرين والسفراء من مختلف الدول بعد أن كانت خرابًا.
وكان من ضمن ما قام به، توظيف عشرات الطلاب والطالبات من المتخرّجين النوابغ من كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة صنعاء، في تخصصات اللُّغة العربيّة، والتّاريخ، والآثار، والمكتبات، إذ سمح ذلك بدخول طاقات واعدة إلى القطاع لتقوم بترميم المخطوطات وفهرستها وصيانتها والاهتمام بها، بعد أن كان موظفو الدّور من كبار السّنّ الذين لم يتلقّوا تعليمًا يؤهّلهم للعمل في حقل المخطوطات.
كما عمل على استجلاب المخطوطات من بيوت العلم باليمن، مثل مخطوطات بيت الإرياني، ومخطوطات آل الورد الثّلائي، ومخطوطات القاضي إسماعيل الأكوع، وتلك الخطوة الأولى لجمع شتات المخطوطات اليمنيّة، وهي كثيرة بحيث إن مخطوطات أسرة واحدة تضاهي دارًا من الدّور الرّسميّة، ويقدّر عدد الأسر اليمنية التي تحتفظ بالمخطوطات بالمئات.
وركز الأحمدي أيضًا على فهرسة المخطوطات فهرسةً موضوعيّة، فضلًا عن فهرسة المكتبات الخاصّة المهداة إلى دور المخطوطات، وإيجاد معرض مفتوح لعرض صور نوادر المخطوطات وإشهارها وَفْقًا لأحدث الأساليب المتّبعة، بالإضافة لصياغة مشروع قانون لحماية المخطوطات، والذي كان يعدّ من أجمع القوانين وأحدثها.
يقول الأحمدي: كان وقتي حينها موزعا بين الجامعة والمجمع والوزارة، وقد كان لي في المدة التي مكثتها باليمن فرصة إخراج أثرين عظيمين من آثار أهل اليمن في القرن السّادس الهجريّ، والقرن الثّامن الهجريّ، وهما: تحقيق كتاب المُطَرّفيّة، لمُسَلَّم بن محمّد اللَّحْجيّ 530هـ، عن نسخة يتيمةٍ منسوخة سنة 566هـ، وهو الأثر الوحيد لفرقة المُطَرّفيّة، وهي فرقة من أهل العلم أُبيدت بالقرن السّادس الهجريّ لأسباب ليس هذا وقت ذكرها، وحُرّقت آثارها ونفائسها، ولم ينج منها سوى كتاب مُسَلَّم، والكتاب من الحسن في محلّة لا نظير لها، وصاحبه من المُكنة في العربيّة وحسن العبارة يُعدّ في طبقةٍ عالية معدوم المثل والقرين، وأيضًا تحقيق كتاب (العسجد المسبوك والزّبرجد المحكوك في تاريخ دولة الإسلام وطبقات الملوك) لعليّ بن الحسن الخزرجيّ 812هـ، وهو من أهمّ الكتب في تاريخ اليمن، إذ يؤرّخ لصقع عظيمٍ ناءٍ من أصقاع الجزيرة العربية، لثمانية قرون، وفيه من الأخبار ما لا يدرك في كتب التاريخ المتعاورة، وفيه من الفوائد ما يجعله في مصافّ الأصول النّادرة في تاريخ اليمن وأخباره.
الاهتمام بالمخطوطات
كان الأحمدي يطمع في إنجاز العديد من المشروعات ضمن عمله في دار المخطوطات غير أنه حيل بينه وبين ما يريد، وأتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فبعد انقلاب الحوثيين نهاية العام 2014م وسيطرتهم على كافة مؤسسات الدولة، غادر الأحمدي البلاد بعد مكوثه فيها لست سنوات، لكن البعد عن اليمن لم يوقف وفاء ابنها البار، إذ ظل الأحمدي يدون ويحقق ويبحث عن نوادر اليمن وكنوزها منذ مغادرته حتى الآن، وحينما أدرك أن (مجمع العربية السعيدة) سيذهب هباءً، حوّله إلى مجمع إلكتروني على الإنترنت، ولا يزال يعمل فيه وينشر أعماله حتى اللحظة.
أنجز الأحمدي مجموعة من الأعمال في المدّة الأخيرة وكان من ضمنها، تحقيق (ديوان الهمداني) العلامة والنابغة والمؤلف والرحّالة الذي برع في علوم شتّى، والذي عُرف بلسان اليمن، ويعدّ من أعظم جغرافي جزيرة العرب في عصره، وكذلك حقّق الأحمديّ قطعة من الجزء السادس من الإكليل، وجميعها تحوي في بطونها كتابات عن تاريخ الأمم والملوك والجغرافيا والعلوم، ولا يزال يؤرق الباحثين والمستشرقين الحصول على الأجزاء المفقودة من الإكليل حتى اليوم.
قصة الإكليل السادس
وعن قصة عثوره على القطعة من الجزء السادس للإكليل يقول الأحمدي: كنت أبحث في الإنترنت، وفي مواقع المكتبات في عدد من الدول بشكل متواصل، وفي أحد الأيام وقفت على منشور للمهندس عرفات البهلولي، حيث نشر على حسابه في فيس بوك خبر إيجاده للكتاب مرفقًا بصورة لغلافه، وقد وقفت على المنشور واتصلت بالمهندس عرفات وسألته عن التفاصيل، فأخبرني عنه أكثر وأرسل لي رابط المخطوط، فحمّلته عن تلك المكتبة وقلّبته، وكانت أوراقهُ تسعًا وخمسين ورقة في مئة وثماني عشر صفحة، وحققته ونشرته في موقع مجمع العربية السعيدة كسابقيه، وهو متاح للقراءة ومحفوظ.
وعند سؤاله عن سر الشغف الذي يحمله في التنقيب عن الذات اليمنية بشكل متواصل يقول: "ما يؤلفه المرء يبقى، ومثال ذلك مؤلفات مؤسسة الهمداني، ومؤلّفات نشوان الحميري منذ مئات السنين، وكل ما أقوم به يصب محور الإبقاء على الذات اليمنية حاضرة، حتى لا يفقد اليمنيون معرفة ذاتهم عندما يبحثون عنها، لأن الذي لا يعرف من هو لن يعرف من هو عدّوه، مشيرًا إلى أن الغرباء يعملون على طمس تاريخ اليمن القديم، كي يرسّخوا في أذهان الأجيال فكرة ابتداء تاريخ اليمن من عند الرسي، وتخليد ثقافتهم من بعد ذلك، وأن المنوط بنا هو مكافحة ذلك في سبيل تخليد الذاكرة اليمنية، والمساهمة في حمايتها من المحو، حتى لا يفقد اليمنيون مستقبلهم ويكرروا أخطاء الماضي.
واعتبر الأحمدي أن خطاب القومية المتنامي حاليًا فكرة ممتازة للعودة إلى الجذور، وردة فعل طبيعية استنكارًا للسلب والتجريف الذي يحصل بحق اليمنيين، لافتًا إلى أنه من المهم تدعيم الخطاب القومي بثقافة وموسوعية، لأن اليمن بلد وتاريخ عريق وهوية وانتماء، وأن العمل من أجل القومية يعد تفانيا حقيقيًّا في معرفة قدرات اليمني وتاريخه، موصيًا الجيل القادم بأن يكون لديه مشروع، ورسالة ورؤية وتحصيل علمي ومعرفي مستمر.