[ أحد مشردي صنعاء ]
يشكو مفلح غالب (58 عاما) من قسوة الشتاء في ليالي صنعاء الباردة ومعاناة النوم المريرة على الأرصفة العارية في مدينة يتزايد فيها أعداد المشردين بشكل لافت مع ازدياد أمد الحرب التي تعصف بالبلاد منذ ستة أعوام.
يفتقد غالب -الذي يتخذ مساحة صغيرة بجوار سور الجامعة القديمة بشارع الدائري (وسط صنعاء) مأوى له- إلى الدفء في حياة غدت كلها ضياع، وهو على الرغم من اختلاله العقلي يبدي حنينا خلال حديثه لسنوات عمره الآفلة تلك التي كان يتوفر فيها على أسرة ومأوى وحياة طبيعية قبل أن يفقد سلامته العقلية ويصير إلى التشرد والضياع.
مأساة مكشوفة
ويعد غالب واحد من آلاف المشردين في صنعاء الذين ينامون في العراء ويفتقرون للمأوى وأبسط مقومات الحياة، وذلك وفق تقديرات محلية، إذ لا توجد إحصائيات رسمية لأعداد المشردين في المدينة، كما لا يحظى المشردين بأي من أشكال الرعاية الاجتماعية من قبل سلطات الأمر الواقع في صنعاء المتمثلة في جماعة الحوثي.
ويحل فصل الشتاء قاسيا على هذه الفئة المهجورة في هامش الحياة، إذ يشكو العشرات من مشردي المدينة من عذابات خلال النوم نتيجة البرد الشديد الذي يؤرق لياليهم العارية، ويفتقر أغلبهم للأغطية القماشية المناسبة (البطانيات)، ويتخذون من قصاصات الكراتين وبعض الأغطية البلاستيكية فُرشا في مشهد من الحرمان يفوق برثائيته أي شيء آخر.
يرجع الناشط الاجتماعي، علاء الشهاري مشكلة التشرد إلى أسباب كثيرة، أبرزها الفقر والاعتلالات النفسية والتفكك الأسري وغياب التكافل الاجتماعي، وهي ظواهر برزت بشكل أكبر عقب الحرب المشتعلة منذ ستة أعوام بين الحكومة اليمنية المدعومة من التحالف العربي وجماعة الحوثي التي انقلب على الدولة أواخر العام 2014.
جهود غير كافية
قاد الشهاري قبل أسابيع مبادرة تطوعية لتوزيع "البطانيات" على المشردين في الحي الذي يسكنه بمنطقة التحرير (وسط صنعاء)، ويقول إن جهوده أثمرت إلى حد ما، فقد تمكن من توفير "البطانيات" لـ 24 مشردا، لكنه لا يعتبر ذلك حلا للمشكلة التي تفوق إمكانياته الشخصية، وقد قصد إدخال السرور وبعض الدفء على مشردي شوارع المنطقة التي يقطنها. ويؤكد أن هذه الفئة تحتاج إلى عون مؤسسي حكومي أو منظماتي يضع حدا نهائيا لمشكلتها، على أن ذلك غير ممكن التحقق في ظل الظروف الحالية من استمرار الحرب وانهيار البلد.
وخلال السنوات الأخيرة شهدت مدينة صنعاء ازديادا ملحوظا لأعداد المشردين بفعل انهيار الحياة على إثر الحرب المشتعلة في البلد منذ ست سنوات، والتي فاقمت ظاهرتي الفقر والمجاعة، إذ يواجه نحو 16 مليون يمني انعداما حادا في الأمن الغذائي بحسب تقرير لبرنامج الغذاء العالمي صدر مطلع العام الجاري، ويؤكد التقرير أن اليمن يتجه مباشرة نحو الوقوع في أكبر مجاعة في التاريخ الحديث، ويفسر هذا الأمر جزءا من أسباب تزايد أعداد المشردين سواء في العاصمة صنعاء أو في اليمن عموما.
ذوات مهدورة
يرى الباحث في علم الاجتماع بجامعة تعز مصطفى السياغي أن التشرد هو حالة من هدر وجودي تتعرض له الذات الإنسانية، تحدث للأشخاص الذين يفقدون السيطرة على حيواتهم لأسباب نفسية أو نكبات مالية أو مشاكل أسرية طافحة، مشيرا إلى أن المشرد لا يحمل ذنب تشرده، لأنه ضحية ظروف خارجة عن إرادته.
ويؤكد السياغي في تصريح لـ"الموقع بوست" أن كل حالات التشرد حدثت نتيجة فقدان سيطرة الأشخاص على مصائرهم. مرجعا المشكلة لأسباب اجتماعية وسياسية أكثر من ارتباطها بالأسباب الشخصية للمشردين، محملا مسؤولية ذلك الدولة والمجتمع معا، معتبرا في الوقت ذاته الحرب القائمة سببا مباشرا لتزايد حالات التشرد في صنعاء واليمن عموما.
خذلان
لكن الدولة تخلت عن مسؤولياتها تجاه المشردين حتى من قبل اندلاع الحرب الأخيرة، على الرغم من وجود قانون في الدستور اليمني يكفل الرعاية للمشردين وهو قانون الرعاية الاجتماعية، ولم يطبق هذا القانون خلال فترة ما قبل الحرب إلا نحو محدود من خلال تأسيس دار الرعاية الاجتماعية في صنعاء التي لا تستطيع اليوم تقديم أي خدمات لفئة المشردين بسبب انعدام التمويل وغياب الدولة واستمرار الحرب القائمة.
لا أحد يكترث لمأساة هذه الفئة المنسية في الهامش بما في ذلك المنظمات الإنسانية التي نشطت مؤخرا في اليمن، والتي تُتَهم من قبل مراقبين بالعشوائية والعبث في ممارسة تدخلاتها الإنسانية ونشاطاتها التي لا تمس الفئات الإنسانية الأكثر احتياجا في البلد كالمشردين وغيرها من شرائح المجتمع الأكثر تضررا من الحرب.
ويقضي المشردون ليال قاسية في شتاء صنعاء البارد بلا دفء أو عزاء أو موساة أو عون من أحد، يواصلون النوم في العراء ويتغذون من بقايا الطعام في المطاعم أو من مكب النفايات. "إنه مجتمع قاس، يظنون أننا لا نحس بالمعاناة ولا نملك مشاعر لمجرد أننا مشردين" يقول مفلح غالب، المعني بهذه القصة، وهو يرجو أن يمر فصل الشتاء سريعا لتنتهي معاناته من البرد، ويأمل أن يحظى في يوم ما بمأوى يحفظ كرامته وبحياة لائقة تصون وجوده من التشرد والضياع.