[ الصورة تعبيرة لشاب يقف على ركام منزله بعد أن دمرته الحرب ]
بعد عشرة أشهر قضاها في التعالج من اكتئاب حاد شُخِّص فيه، يشكو علي بدران (26 عاما) من الأعراض المرضية ذاتها التي كانت لديه قبل انخراطه في عملية العلاج، وتتمثل في حالة حزن شبه دائمة، وفساد في المزاج، وانطفاء الرغبة في الحياة وفي ممارسة الأنشطة اليومية، والانكفاء على الذات وإسلام النفس ليأس مطلق، وفقدان الاهتمام بكل شيء، إلى جانب الانهيارات العصبية المتواصلة والتفكير في الانتحار، وفقدان المعنى في الحياة.
لم يستفد بدران من العلاج النفسي الذي انخرط فيه في أحد المراكز المتخصصة بالطب النفسي في صنعاء، إذ لا تزال معاناته تراوح مكانها، الأمر الذي يفاقم إحباطه ويضاعف يأسه من إمكانية التعافي من الاكتئاب الذي يرهقه ويعيق تقدمه في الحياة، وهو يعتزم التوقف عن زيارة الطبيب طالما أنه لم يجد التشافي على يديه.
مآلات كارثية
تفضي الاعتلالات النفسية بالعديد من المصابين بها في اليمن إلى الجنون والتشرد وأحيانا إلى الانتحار، وتتسبب كذلك في تفكك الأسر وضياع الأفراد بعد فقدانهم السيطرة على مصائرهم في ظل غياب الرعاية الصحية اللازمة وتدني الوعي الصحي بالمشكلات النفسية وانهيار الحياة في البلد بفعل الحرب.
وتسببت الحرب القائمة بتزايد أعداد المصابين بأمراض الصحة النفسية، وتفاقم ظاهرة الانتحار في اليمن الذي يحتل المرتبة الثالثة عربيا في نسب الانتحار بعد مصر والسودان بواقع 2335 حالة سنويا، وفق تقديرات لمنظمة الصحة العالمية التي تؤكد أن 8 ملايين إنسان يمني باتوا بحاجة ماسة لخدمات الصحة النفسية.
وعلى الرغم من شحتها في البلد المنهك بفعل الحرب؛ فإن المراكز المتخصصة بالعلاج النفسي لا تفلح في معالجة كل حالات الاعتلال التي تفد إليها، إذ يشكو إلى جانب بدران العشرات من المصابين بالاكتئاب والفصام واضطراب ثنائي القطب وأمراض الصحة النفسية الأخرى من عدم جدوى عمليات العلاج التي انخرطوا فيها على الرغم من التزامهم الحرفي ببرامج التعالج التي قُررت لهم.
تداوي بلا شفاء
وتتطلب برامج العلاج النفسي ستة أشهر على الأقل ليبدا المريض بالتعافي، لكن بدران لا يشعر بالتحسن بعد نحو عشرة أشهر من العلاج، وقد استقر على استخدام أربعة أنواع من أدوية مضادات الاكتئاب، ويواصل حضور جلسات العلاج المعرفي السلوكي عند طبيبه، لكنه لا يشعر بتحسن في حالته، وهو الأمر الذي يثير تساؤله بشأن جدوى الطب النفسي في بلاد كاليمن، ولماذا تُعالج الأدوية في العموم بعض المصابين بينما لا تجدى نفعا مع آخرين، وينطبق هذا الوضع على مرضى الصحة النفسية في كل بلدان العالم، إذ تشير أبحاث الجمعية الأمريكية لعلم النفس أن 7 من كل 10 مرضى لا تفلح الأدوية في شفاء أمراضهم، على الرغم من وجاهتها الطبية.
تتهم الباحثة في تاريخ العلوم بجامعة هارفارد الأمريكية، الدكتورة آن هارينغتون في كتابها "شافيات العقل" الطب النفسي بالعجز عن فهم ومعالجة المشكلات النفسية لدى المرضى، وتقول أن ما يحدث اليوم بين مرضى الصحة النفسية والأطباء هو مجرد لعبة، حيث يتقدم المريض ليشكوا أعراضا نفسية فيبحث الطبيب في التشخيصات ضمن النماذج المتوفرة لديه التي يرى أنها قد تتطابق مع الحالة الماثلة أمامه، ثم يقر له بعض الأدوية، دون تشخيصات علمية معتبرة، إذ يفتقر الطب النفسي لوسائل تشخيص يمكن التحقق منها إكلينيكيا، وأغلب ما يحدث من تشخيصات يعتمد على التخمينات لا أكثر بحسب هارينغتون.
مثالب الطب النفسي
تقول الباحثة الأمريكية في حين يمتلك الطب العضوي أساسات تشخيص دقيقة وقابلة للاختبار الإكنيليكي، إذ يمكننا معرفة بيولوجيا أمراض كالسكري وضغط الدم بشكل مؤكد، وهي معرفة لا تتوفر حينما يتعلق الأمر بأمراض الصحة النفسية؛ نجد الطب النفسي بلا أساسات علمية محققة لمعرفة أصل الاعتلالات النفسية، وهو يعجز عن معرفة أسبابها ويتعاطى فقط مع أعراضها الظاهرة.
وطبقا لهارينغتون فليس هناك إجماع طبي حتى اليوم حول نموذج محدد لتشخيص أمراض الصحة النفسية، إذ لا تزال أغلب الاعتلالات النفسية دون تفسير، كما لا تتوفر أي نظريات مثبتة للتعاطي معها، حتى إن نظرية "اختلال التوازن الكيمائي في الدماغ" وهي النظرية الأكثر وجاهة في الطب النفسي، لا تفسر لماذا تعالج أدوية تحفيز "السيرتونين" بالدماغ بعض الأشخاص دون غيرهم. وفي المجمل لا يتوفر سوى اتفاق عام حول فرضية تقول أن معظم الأمراض النفسية يحتمل أن تكون نتاج مجموعة معقدة للغاية من العامل الجيني والكيمياء الحيوية والبيئية تتضافر جميعها لتسبب اعتلالا كالاكتئاب.
وترى أن السبب في نجاح الأدوية بمعالجة بعض المرضى دون غيرهم، يكمن في فكرة التأثير الوهمي للدواء الذي يلعب دورا نفسيا فقط في عملية التعافي، فاعتقاد المريض أن الدواء سيفيده يفضي إلى إفادته بالفعل، في حين لا تملك تلك الأدوية بذاتها أثر طبي معتبر.
نجاح ضئيل
يتألف برنامج علاج أمراض الصحة النفسية من جزأين أساسيين، الأول هو الشق الدوائي، وهو عبارة عن أدوية يقرها الطبيب للمريض بعد تشخيص اعتلاله، بينما يتمثل الثاني في العلاج المعرفي السلوكي، ويقوم على جلسات تخاطب يسعى فيها المعالج لتقويم الأفكار الخاطئة لدى المريض ويسعى لأن يكشف له جوانب خفية يجهلها في نفسه، الأمر الذي يكسب المريض فهما أكثر لعلته يساعده بالتالي في الخروج من حالته المرضية، على أن برنامج العلاج هذا لا يكون نافعا مع كل الحالات.
يربط أستاذ الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا جوناثان شيدلر، نجاح برامج العلاج بمدى قدرة المعالج على فهم نمط شخصية المريض. ويقول في حوار ترجمه للعربية الموقع المتخصص بنشر المعرفة "أثارة"، إن الأعراض المرضية لا تكون مهمة بقدر أهمية فهم نمط شخصية المريض الذي نتعاطى معه، لأن ذلك يتيح لنا فهم آلية عمل مرض كالاكتئاب لديه، وبالتالي سهوله معالجته.
ويشدد شيدلر على ضرورة ألا يتعاطى المعالج النفسي في الاكتئاب مع مرض واضح المعالم في كل الحالات، بل مع نمط مختلف من الاكتئاب في كل حالة، يُفهم بقدر فهم نمط شخصية المصاب، فاكتئاب النرجسي مثلا يختلف عن اكتئاب نمط الشخصية الانعزالية الذي يختلف كذلك عن اكتئاب الشخصية الشكاكة. وتكمن مشكلة الإخفاق في معالجة المرضى في عجز المعالج عن فهم ديناميكية شخصية المريض.
وإجمالا، فإن فشل الطب النفسي في علاج بعض الحالات المرضية يعود لجهله بطبيعة أمراض الصحة النفسية، ذلك الجهل هو ما يدفه لاتباع منطلقات خاطئة في التعاطي، وبالتالي يكون من الطبيعي أن يخفق، وفق شيدلر.
يقول فيصل شرهان، وهو المعالج النفسي خاصة بدران المعني بهذه القصة، من الطبيعي أن يخفق علاج بعض حالات الاعتلال، إذ لا توجد في الطب النفسي برامج علاج مضمونة كليا، كما أن مهمة الطب النفسي في اليمن شاقة ومرهقة، وليس من السهل معالجة كل أمراض الصحة النفسية في البلد لاستحالة إزالة مسبباتها في الواقع، أبرزها الحرب والفقر والبطالة، ولا يجدي الطب النفسي كثيرا في إنقاذ حيوات أناس يتطلب الأمر سنوات لشفائهم لفرط تعقيدها وتفاقم المشكلات التي أحالتهم إلى هكذا وضع.