[ الطفل عبد الله يعمل في غسل السيارات بأحد شوارع مأرب لإعالة أسرته ]
يتراقص الطفل مع حبات المياه المتطايرة في الهواء والتي تعيدها الرياح الخفيفة لتداعب وجنتيه الناعمة مغمض عينيه بنصف إغماضة، ثم يراقص الماء الذي يخرج بضغط كبير من الخرطوم ويلاعبه في الهواء مشكلا حبلا ملتويا قبل سقوطه على الإسفلت الساخن وزجاجات المركبات المارة مبتسما يلوح للمارة بأنه يبحث عن مركبة ليغسلها بيديه الصغيرتين، لكن نادرا ما تستجيب له إحداهن من الكم الهائل من المركبات المهترئة التي تمر بجوار مغسلته البسيطة.
يضخ الطفل المياه على رأسه ليبلله ويخفف عنه شدة حرارة الطقس الذي تشهده مأرب الصحراوية في فصل الصيف، وعند فراغ ساحته من المركبات يضخ المياه بخرطومه الأصفر الطويل ليبلل أمام ساحته ويبخ المياه في الهواء وأمام المركبات المارة في الشارع العام ليجذب زبائنه ببرودة المياه وقت الظهيرة.
يقول عبد الله: "أحاول جذب زبائن لغسل سياراتهم عند خروجي من الرصيف الذي أعمل فيه إلى وسط الشارع بخرطوم المياه وأضخ ماء في الهواء وأمام المركبات لإعلامهم بوجود مغسل سيارات هنا ولألطف الجو أمام المركبات المارة لعلهم يعودون لغسل مركباتهم مرة أخرى".
نزح عبد الله محمد هذيل (14 عاما) مع أسرته من محافظة الحديدة ليستقر سكنه في مخيم الجفينة أكبر مخيمات النزوح بمأرب قبل خمسة أعوام، وبات الطفل معيل أسرته من خلال غسيله للمركبات على قارعة الطريق، حيث عمل جاهدا لتوفير معدات سرويس غسيل السيارات المكونة من بترول وصابون وملمعات ومسّاحات يد ومحرك كهربائي (ماطور) وخزان ماء يتم تعبئته بالمياه باستمرار وبمبلغ 2000 ريال(ما يعادل دولارين) لكل مرة مما يجنيه يوميا من غسيل السيارات.
حيث عمل في بيع الخضار كعامل في المدينة لمدة عام تقريبا يقول إنه قام بتجميع أجوره الشهرية التي كان يتقاضاها من خلال عملة حتى بات مبلغ 220 ألف ريال (250 دولارا) ليشتري بها معدات سرويس غسيل السيارات والدراجات النارية.
يغسل عبد الله كل يوم من أربع إلى 10 مركبات ودراجات نارية، ويقول إن "العمل خفيف ولكن الرزق من الله". يجني الطفل من غسيل السيارات في يومه من ثلاثة آلاف ريال إلى خمسة آلاف ريال يذهب نصفها لتوفير الاحتياجات الخاصة بالسرويس من ماء وبترول وأدوات التنظيف، بينما نصفها الآخر يذهب لتوفير مصاريف أسرته بحسب ما يستطيع توفيره، يقول عبد الله.
استغل الصغير العطلة الدراسية ليعمل جاهدا منذ الصباح الباكر حيث يستيقظ من منزله (خيمة) في مخيم الجفينة ليحمل على ظهره أدواته إلى الشارع الذي يبعد كيلومتر تقريبا عن المنزل ليبقى طوال اليوم تحت "ظلة" بناها الطفل من بقايا خيمة مهترئة وبركائز خشبية ببساطة لتحميه من أشعة الشمس الحارقة منتظرا مركبة تقف بجواره لغسلها بمبلغ زهيد.
وأثناء الدوام الدراسي يعمل نهارا ويدرس صباحا ويراجع دروسه والواجبات ليلا، حيث إن عبد الله يدرس في مدرسة الوحدة داخل مخيم الجفينة وقد تجاوز الصف السابع وبات في الصف الثامن، ويقول إنه متميز في المدرسة لكن ليس له طموح بإكمال تعليمه مستقبلا، وقال إنه ربما لن يلتحق بالمدرسة خلال العام الدراسي حاليا بسبب وضع أسرته المعيشي وضرورة مواصلة عمله، حسب وصفه.
يحمل قلبه الصغير غصة كبيرة رغم ابتسامته الظاهرية (عليه العمل لتوفير مصاريف أسرته) حمل ثقيل منذ السنة الثامنة، يعمل حتى بات توفير المال مهنة اعتاد عليها منذ نعومة أظافره "لا يهم أن ألعب مثل أصدقائي، الأهم هو توفير مصاريف الأسرة".
يؤكد عبد الله أن الكثير من أقرانه وأصغر منه يعملون في أعمال مختلفة ومنهم من يعمل مع آخرين بمقابل مادي "العمل ليس عيبا".
باتت عمالة الأطفال وتسربهم من التعليم شائع في اليمن ككل، بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي تمر بها اليمن وفي ظل الارتفاع الكبير في أسعار السلع الأساسية في أسواق البلاد المنكوبة بالحرب للسنة السابعة.
قال عبد الله إنه اختار هذه المهنة كونها لا تتطلب خسائر كبيرة أو تضحيات من خلال خبرته في الأعمال التي شغلها سابقا، وإن عمله في غسيل المركبات يتطلب فقط جهدا جسديا منه، وإذا ما توقف عن العمل لظرف ما لا يُخلف ذلك التوقف أي خسائر، حسب وصفه.
العوز والفاقة في توفير مصاريف الاُسرة المكونة من خمسة أفراد هو الدافع الأول الذي دفع عبد الله للعمل في زمن بات توفير أبسط متطلبات العيش صعبة المنال وثقيلة الحمل.
يتعرض هذا الطفل إلى المضايقات وكلمات جارحة وإهانات من الناس الذين يأتون لغسل مركباتهم: "يقولوا أنت لا تعرف تغسل لم تغسل بالشكل المطلوب ومفايش معك مساحات وأدوات، وكلام يجرح القلب"، لم يكمل عبد الله جملته حتى تساقطت دموعه من عينيه رغم محاولته إخفاءها.
عبد الله له أخ آخر أصغر منه مكلف بمهمة مماثلة لتوفير ما يستطيع من المال الذي يجنيه من وراء بيع الآيسكريم متجولا في حواري المدينة، هو الآخر يحمل عبوة الآيسكريم على ظهره الصغير مبكرا ليعود بعد الظهيرة وقد أنهى ما بجعبته من علب المثلجات.
يصف عبد الله عمله في غسيل لمركبات "بالسهل، وأنه ليس كغيره من الأعمال الثقيلة والمجبر على العمل بجهد أكبر عليها "لقد تعبت كثيراً في العمل الثقيل مع الآخرين".
ورغم عمره الصغير، فقد مر عبد الله بتجارب عديدة في أعمال مختلفة حيث عمل في بيع الآيسكريم وبيع الثلج وبيع الخضار وعمل في بقالة، بينما يطمح بأن يكون تاجرا في المستقبل ليستطيع العيش مع أسرته وإخوته "مستوري الحال" دون الحاجة لأحد أو للعمل مع الآخرين وتحمل الصعاب، لا يريد عبد الله لإخوته يعانون ما عاناه في العمل مع الآخرين وفي الأعمال التي لا يقوى عليها إلا مجبر بظروف جعلت منه يتحملها لتوفير لقمة عيش أسرته.
هذه الأسرة واحدة من الأسر اليمنية الكثيرة التي تكافح من أجل لقمة عيش كريمة يوفرها أبناؤها الصغار في زمن بات للصغار مهمة عجز أمامها الكبار وأنهكتهم وأشعلت رؤوسهم شيبا ليأتي الصغار حاملين ثقلها ليشيبون ولدانا ويموتون عمالا دون تعليم ولا عيش رغيد، كل هذا في زمن الحرب الطاحنة التي تشهدها اليمن ولا زالت طواحين الحرب تجعجع دون توقف أعلى بكثير من أنات الصغار رغم شدتها.
وبحسب الأمم المتحدة، سيواجه أكثر من 16 مليون شخص من بين 29 مليوناً، الجوع في اليمن هذا العام، وهناك ما يقارب 50 ألف يمني “يموتون جوعاً بالفعل في ظروف تشبه المجاعة”، كذلك تحذّر وكالات تابعة للأمم المتحدة من أن 400 ألف طفل تحت سن الخامسة يواجهون خطر الموت جرّاء سوء التغذية الحاد في 2021، في زيادة بنسبة 22 بالمئة عن العام الماضي 2020.
وقالت المديرة التنفيذية لليونيسف هنريتا فور: “إن تزايد عدد الأطفال الذين يعانون من الجوع في اليمن يجب أن يدفعنا جميعاً للتحرك، سيموت المزيد من الأطفال مع كل يوم ينقضي دون القيام بالعمل اللازم، تحتاج المنظمات الإنسانية للحصول على الموارد الضرورية العاجلة مع إمكانية الوصول دون عوائق للمجتمعات المحلية في الميدان كي تتمكن من إنقاذ حياة الناس".
ويُعد اليمن حاليا أحد أكثر الأماكن خطورة في العالم التي يمكن أن ينشأ فيها الأطفال، بحسب اليونيسف، حيث تعاني البلاد من ارتفاع معدلات الأمراض المعدية، ومحدودية فرص الحصول على خدمات التحصين الروتينية والخدمات الصحية للأطفال والأسر، والممارسات غير السليمة لتغذية الرضع والأطفال الصغار، وضعف أنظمة الصرف الصحي والنظافة العامة، بحسب تقرير الأمم المتحدة.