[ استمرار معاناة جرحى تعز ]
بعد أن قام "الموقع بوست" بنشر الجزء الأول من التحقيق المرتبط بالفساد المستشري في المستشفيات بتعز المتعاقدة مع مركز الملك سلمان للإغاثة، والذي أدى إلى تضرر عشرات الحالات جراء المُتاجرة بهم، تواصل عديد من الجرحى مع مراسلة الموقع، لعرض حالاتهم أملا بالتخفيف من معاناتهم وكثير من الحالات المماثلة.
وتبيَّن لـ"الموقع بوست" أن عديد من الجرحى لم يكونوا يعلموا أن تسابق تلك المستشفيات عليهم كان من أجل الأموال الطائلة التي يحصلون عليها من ورائهم، وهو ما أثار استيائهم الشديد.
ويعود سبب عدم معرفة الكثير من الجرحى بأن تلك المستشفيات تقدم لهم الخدمة بناء على اتفاق مع مركز الملك سلمان، هو عدم التزام المستشفيات بإشهار دور مركز الملك سلمان ووزارة الصحة إعلاميا، حسب العقد الموقع بينهما، وهو ما يضع علامة استفهام حول صمت الجهات المعنية إزاء عدم تنفيذ بنود العقد.
العبث بمصير الجرحى
ويستمر العبث بمصير عشرات الجرحى في تعز والمتاجرة بهم، لتتفاقم معاناتهم حتى اليوم، برغم الدعم الكبير الذي تتحصل عليه بعض المستشفيات في المحافظة.
وكشف مصدر طبي لـ"الموقع بوست" عن انتهاء فترة العقد بين مستشفى الصفوة والبريهي من جهة ومركز الملك سلمان الذي يقدم الدعم المادي لهما.
وأكد المصدر عدم استقبال المستشفيين للجرحى، لأن مركز الملك سلمان لا يعتمد لهم مقابل الحالات التي يتم علاجها في فترة ما بين العقدين.
تواصل "الموقع بوست" مع مندوب الجرحى في جبهة الصلو بتعز التابعة للواء 35، إدريس الصلوي، وأكد عدم استقبال مستشفى الصفوة ومستشفى البريهي للجرحى، لانتهاء فترة العقد بينهما والمركز.
لمتابعة الجزء الأول على الرابط:
http://almawqea.net/reports/20197#.WYNRj4QrLIU
وطالب "الصلوي" بضرورة إيجاد حلول جذرية لهم، حتى يتمكنوا من التخفيف من معاناة الجرحى، الذين يزداد وضعهم سوءا يوما بعد يوم.
وحول تفسير ذلك بيَّن لـ"الموقع بوست" المصدر الطبي الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أن المستشفيين يختلقان الذرائع، حتى يتم تجديد العقد معهما من قِبل المركز، ويضطر مندوبو الجرحى إلى نقل الجرحى إما لمستشفى الثورة أو مستشفى الروضة. ليتضح بذلك أن العمل بات بعيدا عن الإنسانية وتحول إلى متاجرة، عانى منها عشرات الجرحى.
تزوير
في الثامن عشر من أغسطس/آب 2016، دخل هشام عبدالرحمن أحد أفراد القوات الشرعية بتعز إلى مستشفى البريهي جريحا، وكان من المفترض أن يتلقى الرعاية الطبية الكاملة حتى يتماثل للشفاء، لكن ذلك لم يحدث.
تُفيد التقارير التي حصل عليها "الموقع بوست" أن عبدالرحمن أصيب بطلق ناري بالجهة اليمني العلوية من منطقة الظهر، مخترقا تجويف الصدر إلى الجهة العلوية الأمامية اليمنى.
ووفقا للتقرير الطبي الصادر عن إدارة البريهي، قام المستشفى بعمل قسطرة صدرية لإخراج النزيف من الصدر، وتم تركيب درنقة، ورقد المريض في العناية حتى استقرار حالته، ثم قرر له خروج.
لكن الشاب البالغ من العمر 35 عاما ذكر لـ"الموقع بوست" أن المستشفى قام فقط بعمل قسطرة له، وأحالوه عقب أقل من ساعة إلى مستشفى الروضة لاستكمال علاجه، دون أن يقوم مستشفى البريهي بعمل اللازم.
هشام عقب إصابته
لم يقتصر الأمر على عدم تقديم الخدمة الطبية اللازمة بناء على العقد الموقع بين مستشفى البريهي ومركز الملك سلمان، بل تعداه إلى التزوير، إذ تم رفع اسمه في أول كشف إلى المركز على أنه خضع لعملية صدر مفتوح وإيقاف النزيف، وهو الأمر الذي أكده لنا مصدر طبي -طلب عدم الكشف عن اسمه- وتؤكده كذلك الصور المرفقة لعبدالرحمن عقب إصابته وبعد تماثله للشفاء والتي لا يظهر فيها أي جرح لعملية سابقة في الصدر، بالإضافة إلى صورة التقرير الصادرة عن المستشفى ذاته.
هشام بعد أن تماثل للشفاء
وتُثير هذه الحالة عديد من علامات الاستفهام، حول آلية الرقابة، والأشخاص المسؤولين عن اعتماد الحالات التي يتم رفعها إلى مركز الملك سلمان.
فساد
كانت نسبة الفساد في أول كشف تم رفعه من قِبل إدارة مستشفى البريهي إلى مركز الملك سلمان الداعم له، كفيلة بجعل عضوي اللجنة الطبية المكلفة بإحالة الجرحى من جميع الجبهات إلى المستشفيات الخاصة، وهما الدكتور نشوان عبدالجبار، والدكتور عبدالباسط سلام، يرفضون التوقيع عليه، ليتم استبدالهم باثنين أحدهما يعمل كمهندس والآخر لديه دبلوم صيدلة، وكان التغيير بموجب قرار صادر من وزير الصحة، وتم بموجب ذلك القرار كذلك استبعاد دور مكتب الصحة والسلطة المحلية الرقابية.
وفي هذا الشأن تواصل "الموقع بوست" مع الدكتور نشوان عبدالجبار، وأشار إلى موافقة اللجنة -التي كان هو أحد أعضائها قبل تغييره- على 22 حالة فقط تم رفعها من مستشفى البريهي، على أن يتم النظر ومتابعة باقي الحالات، إلا أن عضوي اللجنة تفاجآ بأنه لم يتم التواصل معهما، وتم إبلاغهما بأن الموافقة على بقية الحالات ستكون من اختصاص لجنة عدن.
وأكد أنهم لم يوقعوا على الكشف أو أي حالة، مُبينا أن رئيس اللجنة كان من تولى التوقيع على الاستمارات، وتم قبولها من وزارة الصحة ومركز الملك سلمان، برغم أن أعضاء اللجنة لا بد أن يوقعوا، لافتا إلى عدم تسليم أعضاء اللجنة الكشوفات.
وتقوم تلك اللجنة الطبية بالمصادقة على الفواتير المرفوعة من المستشفيات، وتعمد من مدير عام مكتب الصحة العامة والسكان بتعز، كما تتابع حالة الجرحى داخل المستشفيات أولا بأول، وتحدد كذلك الجرحى المستحقين العلاج في تلك المستشفيات، إلا أن شيئا من ذلك كله لم يتم.
إهمال مُتعمد
رضوان سعيد الجريح الذي يمتلك ملفا طبيا كبير الحجم، ليتضح بذلك حجم معاناته نتيجة تنقله بين طبيب وآخر، ورفض مستشفى البريهي سداد تكاليف علاجه، برغم مطالبات قائد عمليات اللواء 17 مشاه العقيد عبده حمود الصغير بذلك، كما يظهر في المُذكرة.
أصيب في الثامن عشر من أغسطس/آب 2016، في جبهة جبل هان، بطلق ناري في الفقرة العنقية الخامسة، وهي التي رقد بسببها في مستشفى البريهي من تاريخ إصابته وحتى 4 سبتمبر/أيلول 2016، بعد إصابته بشلل نصفي سفلي.
لكنه وقع فريسة الإهمال الطبي في العناية المركزة بمستشفى البريهي، وأصيب في تلك الفترة بقروح فراش عميقة بالإليتين أسفل الظهر، بسبب عدم تغيير مواضع نومه، ولم يعرف أهله بها إلا عقب أربعة أيام.
معاناة رضوان من قروح الفراش
اضطر أهل رضوان إلى نقله لمستشفى آخر بعد تفاقم حالته، وتلقى علاج قرحة الفراش بعد نقله من البريهي في الرابع من سبتمبر/أيلول 2016 وحتى يوم سفره إلى تركيا في 28 ديسمبر/كانون الأول لعلاج إصابته الأساسية في العنق، بعد أن تحسنت قرحة الإليتين، ولم يتبقَّ سوى زراعة الجلد التي تمت خارج اليمن.
ويذكر أخوه محمد أن شقيقه الذي بات اليوم مقعدا يخضع للعلاج في دولة تركيا، وأكد أن أغلب علاجهم لرضوان داخل وخارج البلاد، هو من أجل شفائه من قروح الفراش التي ضاعفت بشكل كبير من معاناته.
وبحسب المذكرات التي حصلنا عليها، زعم مستشفى البريهي - في معرض رده علي مذكرة مطالبة العقيد عبده حمود الصغير بسداد تكاليف علاج إهمالهم- بأن سبب تقرحات الفراش، هو صعوبة دوران الأوعية الدموية الدقيقة لتغذية الأنسجة في منطقة الأرداف (الإلية اليمنى والإلية اليسرى).
وهو الأمر الذي اضطر العقيد الصغير إلى عرض رد البريهي على مذكرة المطالبة، على استشاريين وأخصائيين لمعرفة السبب الحقيقي لقرحة الفراش، لعمل رد مناسب للبريهي ذكر فيه "العلم ينفي مزاعمكم عن أسباب قرحة الفراش وسبقه القرآن الكريم (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) وهناك مصابون لديهم شلل رباعي وطريحي الفراش لأكثر من سنة ولم نسمع عن قرحة فراش إلا بمشفاكم مع أن الإصابة بالعنق".
ندرة الكفاءات
كمال محمود هو أيضا أحد ضحايا فساد وإهمال تلك المستشفيات التي يوجد بها أطباء غير مؤهلين تم اختيارهم -كما أكد لنا مصدر طبي في الجزء الأول من التحقيق- بناء على استعداد للابتزاز، فقد أصيب بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول 2016 ، بطلق ناري في الساق الأيمن، في حذران بالجبهة الغربية بتعز، تم نقله إلى مستشفى البريهي، الذي أجرى له أول عملية جراحية، وتم خلالها تركيب تثبيت خارجي للعظم.
عقب أسبوع خضع "محمود" لعملية جراحية ثانية "تعديلية"، ثم ثالثة قاموا خلالها بإزالة المسمار الذي يوجد في العظم.
يروي محمود لـ"الموقع بوست" بوجع، قصته مع الطبيب الروسي الذي قام بمعالجته في البريهي، وأخبره أن التثبيت الخارجي للعظم سيتم إزالته عقب ستة أشهر.
عانى محمود خلال تلك الفترة من آلام مبرحة، وما إن تم إزالة التثبيت عقب انقضاء المدة المحددة، وعمل الجبس (جبيرة) له، اتضح أن الساق ما زالت مكسورة، وبها اعوجاج.
واضطر الشاب العشريني لمتابعة العلاج مع أطباء آخرين خارج مستشفى البريهي، وأخبروه بضرورة خضوعه لعملية جراحية، حتى لا يموت العظم (موت خلوي لمكونات العظم) في مكان الإصابة، ولابد من إزالة العظم الميت وزراعة آخر.
عاد محمود عقبها محملا بتقاريره إلى البريهي الذي ينبغي أن يقوم بعلاج الجريح حتى يتماثل للشفاء بناء على العقد الموقع بينه والمركز، وعرض عليهم التقارير، وطالب أن يتم تحويله إلى مستشفى الصفوة لإجراء العملية هناك، ورفضوا التحويل بحجة أن العملية ناجحة.
ثلاثة أشهر قضاها محمود في الذهاب والإياب من وإلى المستشفى، على أمل إقناعهم، لكنهم رفضوا، واضطر لأن يجري العملية الجراحية في مستشفى الروضة وسط تعز.
تنصل من المسؤولية
"الصفوة" المستشفى الثاني الذي يحصل على دعم من مركز الملك سلمان، يسابق الزمن لملء الكشوفات المحددة، ليحصل على فرصة تجديد العقد ثانية، ليتمكن من المتاجرة مُجددا بالجرحى.
ففي أواخر مايو/أيار أصيب ياسر الرامسي في جبهة الدمغة بشظايا قذيفة مدفعية، اخترقت تجويف البطن، نُقل على إثرها إلى مستشفى الصفوة، وتم تقييد اسمه في كشوفاتهم، وخضع لتصوير بالأشعة السينية، وأخبروه أن الشظية في الفخذ، ولإخراجها ينبغي أن يعود عقب شهرين.
عاد الرامسي إلى المنزل لكن حالته ازدادت سوءا، وتم إسعافه ثانية إلى الصفوة في نفس اليوم، لكن لم يقدموا له أي خدمة طبية.
اضطرت أسرته إلى مغادرة الصفوة والتوجه به إلى مستشفى آخر وسط المدينة، وتبيَّن أنه يعاني من تمزق في الأمعاء، وأدى تأخره بالحصول على الرعاية الطبية إلى تلوث في الجرح وبكتيريا وقيح، كاد أن يودي بحياته، وخضع عقبها في اليوم التالي "الرامسي" لعملية جراحية.
عمار الرامسي شقيق الجريح ياسر ومندوب الجرحى في جبهة المحافظة والقصر، ما يزال يتذكر أثناء وقوفه إلى جانب أخيه، صورة الجريح الذي تم نقله إلى الصفوة وكان يعاني من جراح خطيرة، وبرغم ذلك لم يتوفر حتى ممرض ليقوم بعمل إبرة له.
في منتصف يونيو/حزيران الماضي، أكد لنا عمار الرامسي، أنهم نقلوا أربعة جرحى إلى الصفوة، وتم استقبالهم وتسجيل أسمائهم، لكن لم يحصلوا على أي خدمات طبية، واضطروا إلى نقلهم إلى مستشفيات أخرى لإنقاذهم. وهو يذكر ذلك شعر بالاستياء وقال: "أهم شيء اللي يسجل اسمهم، يستقبلهم من الباب بس".
العمل في الخفاء
تم الاتفاق على التعاون بين مركز الملك سلمان للإغاثة وبعض المستشفيات الخاصة داخل تعز، وعقبها في الحادي والعشرين من يوليو/تموز، صدر قرار بتشكيل لجنة طبية لإحالة جرحى الحرب من جميع الجبهات إلى المستشفيات الخاصة، ولكن بقي كل ذلك في ركن مظلم، برغم أن الاتفاق يطالب بإشهار دور المركز.
وكشفت مصادر طبية لـ"الموقع بوست" عن أن ذلك كان يتم عن جهل منهم، نظرا لعدم سهولة التواصل بين مستشفيات محافظة تعز التي تعاقدت مع مركز الملك سلمان، ومندوب المركز في العاصمة المؤقتة عدن.
وبناء على العقد الذي يتم توقيعه بين المركز والمستشفى، فإن الأخير يتلقى مبلغ ستمئة ألف دولار أمريكي مقابل تقديم الخدمات الطبية لـ150 جريحا، بواقع أربعة ألف دولار للشخص الواحد، وتشمل جميع تكاليف الحالة حتى تشفى، وهو الأمر الذي لا يحدث في عديد من الحالات.
ومن وقت لآخر، يخرج الجرحى في تعز بعكاكيزهم وأقدامهم التي ما تزال تلفها الضمادات، أو المبتورة، يُنفذون وقفات احتجاجية للمطالبة بعلاجهم والتخفيف من معاناتهم، لكن لا حياة لمن ينادونهم.
ولا يبدو أن معاناة أكثر من عشرة آلاف جريح بتعز ستتوقف، وذلك يعود حسب الأطباء الذين تحدثنا إليهم، إلى عدم التفات وزارة الصحة لهذا الأمر، فضلا عن عدم قيام مركز الملك سلمان باتخاذ آلية لمتابعة العمل في تلك المستشفيات، والتحقق من تقديمهم للخدمة الطبية المطلوبة منهم كما ينبغي.
الجدير بالذكر أن مركز الملك سلمان للإغاثة سبق وأن تعاقد مع مستشفى الروضة لمرة واحدة، وكذا خمس مرات مع مستشفى الصفوة، وست مرات مع مستشفى البريهي، ومن المتوقع خلال الأيام المقبلة أن يتعاقد مع مستشفيات أخرى أو يُعيد تجديد العقود مع بعض تلك المستشفيات، دون مُراعاة لكفاءة وجاهزية الجهات التي يتم اختيارها.