نُسج التاريخ الإنسانيّ بطموحات الملوك والقادة العسكريين، وسواءٌ أحببنا هذا أم لا فهذه هي الحقيقة. ومن بين هذه الطموحات والمعارك الكبرى التي نشبت في المنطقة الإسلامية كانت معركة جالديران. تلك المعركة التي أثّرت في شكل وهوية جزءٍ كبير من العالم الإسلامي، وربما أثّرت بشكل ما على شكل دولٍ حاليّة.
كانت هذه المعركة بين دولتين مسلمتين قويتين حينها، الأولى مذهبها الديني الرسمي هو الإسلام السنِّي، وتلك هي الدولة العثمانية، والثانية ناشئة حديثاً مذهبها الديني الرسمي هو الشيعي الاثني عشري.
الدولة الصفوية والدولة العثمانية إلى المواجهة
استقرّت الدولة العثمانية بعاصمتها إسطنبول بعد فتحها عام 1453، وما إن توفي سلطانها القوي محمد الفاتح حتّى بدأ الصراع بين خلفائه على عرش السلطنة. وبينما الدولة منشغلة بالأحداث الداخلية كانت دولةٌ ناشئةٌ أخرى تنمو على حدودها، وعاصمتها تبريز في إيران الحالية.
بدأ الشاه إسماعيل الصفوي، وهو أشهر ملوك هذه الدولة، في تأسيس دولته التي استمرّت أكثر من قرنين من الزمان. كان الشاه إسماعيل من نسل شيخٍ صوفي يدعى صفيّ الدين الأردبيلي الذي أسس طريقته الصوفية السنيّة في منطقة أردبيل (شمال إيران الحالية).
ظلّت هذه الطريقة تهتم بالعبادة والتصوف حتّى قرّر أحد شيوخها لاحقاً ويدعى "الشيخ جنيد" تحويلها من المذهب الشافعي إلى الجعفري الشيعي. كما حوّل مريديها إلى جنود، وفي عهد حفيده إسماعيل الصفوي بدأت دولةٌ ناشئة في التكوُّن والتبلور.
ضمّ الشاه إسماعيل العراق وأجزاء أخرى من آسيا، وفرض على سكانها اعتناق المذهب الشيعي الاثني عشري بالقوّة. ومن المثير أن تعرف أنّ إيران نفسها كانت سنيّة حتّى غيرها الشاه إسماعيل إلى المذهب الشيعي بالقوّة والعنف.
وهكذا، بدأت الدولة الجديدة تتغوّل على حساب الدولة العثمانية الغارقة في صراعاتها الداخلية من جهة، وفي صراعاتها الأوروبية من جهةٍ أخرى.
داخل الدولة العثمانية كان سليم الأوّل، حفيد السلطان محمد الفاتح، قد هيّأ لنفسه السيطرة على العرش من أبيه بعدما أطاح بأخويه في سلسلةٍ من "الحروب الأهلية". وفي هذا الصراع كان الشاه إسماعيل قد دعم أخاه أحمد (الأكبر سناً)، وما إن هزم السلطان سليم أخويه حتّى توجّه ناحية الشرق، حيث الدولة الصفوية، عازماً على دخول معركةٍ حاسمة، بل يبدو أنّ خطّته كانت القضاء على تلك الدولة الناشئة تماماً.
وتذكر لنا المصادر التاريخيّة أنّ الشاه إسماعيل الصفوي كان دموياً، فبعد أن فرض المذهب الشيعي بالقوّة على مواطنيه، ارتكب بعض المجازر بخصوص المواطنين السنّة. وبعد تحالفه مع بعض القبائل التركيّة العلويّة في آسيا (تدعى قبائل القزلباش) سيطر على بعض مناطق الدولة العثمانية في وسط آسيا وفي هضبة الأناضول.
وهكذا، استمرّ الشاه إسماعيل في الاستحواذ على بعض مناطق الدولة العثمانية بدايةً من عام 1501 وحتّى عام 1514 عندما أعلنه سليم الأوّل بالحرب.
معركة جالديران الحاسمة
كانت البداية دينية بالطبع، ففي ذلك الزمن لم يكن ممكناً أن يخوض السلطان المسلم حرباً مع مسلمين حتّى ولو كانوا شيعة، وهكذا أصدر مفتي الإسلام "حمزة أفندي" حكمه بأنّ طائفة الصفويين التي يرأسها الشاه إسماعيل استخففت بشريعة الإسلام… وينبغي قتالها والقضاء عليها".
في تلك المرحلة كان سليم الأوّل قد أحصى أتباع الشاه إسماعيل الموجودين على حدود الأناضول في الأراضي التي ضمّها الشاه في السنين الماضية، وكانوا حوالي 40 ألف إنسان، فأمر بقتل الكثيرين وسجن بعضهم.
وهكذا، بدأت المراسلات الحادّة بين الرجلين، سليم يرسل رسالة للشاه يهدده فيها بأنّه قد استصدر فتوى بجواز قتله إذا لم يعد إلى رشده ويتخلّى عن مذهبه، والشاة يردّ عليه بإرسال علبةٍ فيها أفيون إشارةً إلى أنّ سليم الأوّل قد فقد عقله.
وهكذا تصاعدت التهديدات حتّى تواعد الطرفان على القتال في معركةٍ حاسمة، وهكذا جاءت معركة جالديران عام 1514. بعدما تولّى سليم الأول السلطنة بعامين اثنين فقط.
تحرّك السلطان سليم بعدما جهّز كامل جيوشه شرقاً، وفي طريقه إلى سهل جالديران حيث ستكون المعركة الفاصلة، استولى على كلّ ما قابله من قلاعٍ ومدنٍ تابعةٍ للدولة الصفوية، وكان الشاه يحرق كلّ المدن والأراضي التي سيستولي عليها سليم في طريقه إلى المعركة لاستنزافه وجيشه وليقطع طرق الإمداد من خلفه.
وفي أغسطس/آب عام 1514 وصل الجيش العثماني بقيادة سليم الأوّل إلى سهل جالديران، وبدأت المعركة سريعاً في اليوم التالي لوصول الجيش العثماني.
كان الجيش العثماني جيّد التدريب، خاض معارك وحروباً مع إمبراطورياتٍ ودولٍ أوروبيةٍ قائمة وقوية، فقد فتح القسطنطينية منذ نصف قرنٍ مضى، ودخل في صراعٍ مع بابا روما والبندقية وغيرهما من السلطات الأوروبية.
كما تميّز الجيش العثماني وقتها بمدفعيته الثقيلة جداً، وهكذا انتصر في اليوم الأول من معركة جالديران، وجُرِحَ الشاه نفسه وهرب من ساحة المعركة وأسرت إحدى زوجاته. ويقال إنّ السلطان سليم أعطى زوجته إلى أحد خدمه إمعاناً في إذلال الشاة.
ووصل الأمر أن هرب الشاه لعاصمته تبريز، فلاحقه الجيش العثماني ودخل عاصمة الدولة الصفوية وسيطر عليها، بعد أن هرب منها الشاة هروباً سريعاً.
أراد سليم الأول تكملة المعركة وملاحقة الشاه والقضاء عليه، لكنّ بعض قادة الجيش تذمّروا وثبّطوه عن عزمه، فعاد أدراجه إلى العاصمة إسطنبول، وما إن وصل حتّى قتل القادة الذين تذمروا، وأرغموه على العودة.
ظلّت نتيجة هذه الحرب إهانةً ماثلةً في جبين الدولة الصفوية، وقد تحيّن الشاه إسماعيل وخلفاؤه الفرص دوماً للانقضاض على مؤخرة الدولة العثمانية من الشرق، ودعم بعض الأطراف في أيّ حروبٍ أهلية لاحقة، بل والالتفاف على العثمانيين بمراسلاتٍ بين بعض أعدائها الأوروبيين، فلم يكن بإمكان الدولة الصفوية مسح عار هذه الهزيمة سوى بالعداء الكامل للدولة العثمانية واقتناص الفرص لإضعافها.