[ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس اليمني هادي ]
عُرفت السعودية بموقفها المناهض للوحدة اليمنية منذ عهد الرئيس إبراهيم الحمدي وحتى يومنا هذا، وقد عاد الجدل مجددا حول الموقف السعودي من وحدة اليمن، بعد اتهامات لها بتبادل الأدوار مع دولة الإمارات لتمزيق البلاد، من خلال خطوات مرحلية ومدروسة تفضي إلى القضاء على الوحدة اليمنية وفرض الانفصال، وتخدير النخب السياسية الوحدوية وكذلك تخدير غالبية أبناء الشعب الرافضين للانفصال بتصريحات تؤكد على دعم وحدة البلاد، بغرض امتصاص الغضب، وتمرير مشروع الانفصال على مراحل مدروسة، وتهيئة المناخ العام لتقبله في نهاية المطاف كأمر واقع.
لا تبدو تصريحات المسؤولين السعوديين بشأن تأييد حكومة بلادهم للوحدة اليمنية مطمئنة، لتناقضها مع طريقة إدارة المملكة للأزمة اليمنية، ولا يبدو أن السعودية تدير سياستها الخارجية وفقا لتفكير إستراتيجي، وبنفس الوقت لا يمكن لليمنيين أن يأمنوها على أي شأن من شؤون بلادهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بوحدة اليمن، ذلك لأن الموقف السعودي المناهض للوحدة اليمنية يعد أحد ثوابت السياسة السعودية إزاء اليمن، بدأ ذلك منذ أول خطوة لمحاولة تحقيق الوحدة عمليا قبل أكثر من أربعين عاما وحتى الآن.
أول اغتيال للوحدة
أبدت السعودية مخاوفها من إمكانية تحقيق الوحدة اليمنية منذ زمن مبكر، وعملت على اغتيال ذلك الحلم في مهده، ولعل أول إجراء عملي بهذا الخصوص يتمثل في تخطيطها لاغتيال الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي، وجاء اغتياله، في 11 أكتوبر 1977، قبل يوم واحد من زيارته المرتقبة لمدينة عدن لإعلان الوحدة، وكان مخططا بأن يتم الإعلان يوم 14 أكتوبر 1977، أي بالتزامن مع ذكرى ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن.
وقد كشف فيلم "الغداء الأخير" -الذي أنتجته قناة الجزيرة عن حادثة اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي- عن دور السعودية في اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، وفقا للوثائق والشهادات التي استند عليها معدو الفيلم، وكان دور السعودية في اغتيال الحمدي يتمثل في أن عملية الاغتيال تمت بحضور الملحق العسكري السعودي في صنعاء صالح الهديان، الذي يعد المشرف الرئيسي على الجريمة، وتحدث عن دورها كذلك الرئيس الراحل علي صالح، والذي كان ضمن المتهمين الرئيسيين بتنفيذ الجريمة.
وكان الدافع الرئيسي للسعودية لاغتيال الحمدي يتمثل في إجهاض مشروع الوحدة اليمنية في مهده، بالإضافة إلى أسباب ودوافع أخرى، تتمثل في سعي الحمدي للنهوض باليمن، والاستقلال بالبلاد عن الهيمنة والوصاية السعودية، ورفض ترسيم الحدود معها، واستمراره في الكثير من الإصلاحات، وبناء علاقات قوية مع الدول الكبرى، واهتمامه بأمن البحر الأحمر وبسط اليمن سيطرته على مياهه الإقليمية، وسعيه لبناء جيش وطني بعيدا عن هيمنة مشايخ القبائل، وقد كانت الرياض قلقة من كل ذلك، خاصة سعيه لتحقيق الوحدة اليمنية، وفقا لشهادة نائب رئيس البعثة الأمريكية في اليمن عام 1978، التي أدلى بها في فيلم "الغداء الأخير".
تحقيق الوحدة عام 1990
ظلت السعودية تكرس جهودها لإبقاء اليمن مجزءا، وتعمل ضد إعادة تحقيق وحدته خوفا منها، وذلك حتى لا يزدهر ويشكل خطرا عليها، بالإضافة إلى مخاوفها من أن يتمكن اليمنيون من المطالبة بالأراضي التي سيطرت عليها منذ عام 1934 واستعادتها بالقوة، وكانت تحتضن قوى المعارضة من الشطرين وتستغلها لإعاقة تحقيق الوحدة اليمنية.
وقبل الإعلان عن تحقيق الوحدة، عام 1990، أرسلت السعودية وزيري المالية والخارجية إلى عدن، إلا أن الزيارة لم تسفر عن نتيجة ملموسة، وأحيطت بالسرية والغموض، وسط تكهنات بأن الهدف منها إقناع حكام عدن بالتراجع عن الوحدة مقابل وعود بتقديم دعم مالي لدولتهم التي كانت منهكة اقتصاديا بسبب انقطاع دعم الاتحاد السوفياتي لها، وكان ذلك يعد السبب الرئيسي لهرولتهم نحو الوحدة، بعد سنوات من العرقلة بسبب الخلافات بين قيادات الشطرين على شكل الدولة الجديدة.
وبعد الإعلان عن الوحدة، والغضب السعودي حيال ذلك، جرت اتصالات لطمأنة المملكة بأن الوحدة اليمنية لا تشكل أي خطر عليها، وأنها تمثل عامل أمن واستقرار في المنطقة، لكن السعودية لم تقتنع بذلك، وبدأت بتشكيل دوائر نفوذ تابعة لها، واختراق البنية القبلية للمجتمع اليمني، فاستقطبت العديد من مشايخ القبائل إلى صفها عبر الإغراءات المالية التي كانت تقدمها اللجنة الخاصة، والتي تأسست بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962 لدعم الملكيين، ثم استمرت في تقديم الدعم بعد ذلك لبعض مشايخ القبائل، ورأسها منذ تأسيسها الأمير سلطان بن عبد العزيز حتى وفاته في 22 أكتوبر 2011، وكان هدفها من ذلك إضعاف الدولة اليمنية الموحدة من خلال خلق ولاءات تابعة لها لاستخدامها عند الحاجة، ولضرب وحدة البلاد من الداخل.
حرب صيف 1994
برز الدور السعودي المناهض للوحدة اليمنية بقوة أثناء حرب صيف 1994 والأزمة السياسية التي سبقتها، فعندما بدأت الخلافات على السلطة بين شريكي الوحدة، وجهت السعودية رسائل إلى شركات النفط الغربية وطلبت منها عدم التنقيب عن النفط في الأراضي (اليمنية) المتنازع عليها، مدعية أنها تجري في أراضٍ سعودية، مما أدى إلى توتر العلاقة بين البلدين.
وكانت السعودية تهدف من وراء استفزازاتها تلك لتحقيق رغبتها القديمة في إعادة التشطير، وفصل أراضٍ من الشطر الجنوبي بما في ذلك حضرموت والمهرة (الغنيتان بالنفط والمطلتان على المحيط الهندي والبحر العربي) لتصبحا دولتين مستقلتين، تمهيدا لإدخالهما في فيدرالية مع السعودية، بحسب التصريح الرسمي الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية اليمنية في 28 ديسمبر 1994 عن التدخلات السعودية في اليمن.
وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية، بدأت السعودية التدخل في الشؤون الداخلية لليمن بشكل واضح، وحاولت تحريض القبائل على التمرد ضد السلطة، ثم استغلت الخلافات بين شريكي الوحدة، والتقى السفير السعودي في واشنطن بندر بن سلطان بنائب الرئيس اليمني علي سالم البيض أثناء رحلة الأخير العلاجية إلى الولايات المتحدة، وبعد تلك الرحلة واللقاء بالسفير السعودي، عاد البيض إلى عدن معتكفا، وربما أن ذلك الاعتكاف كان بتخطيط سعودي للمضي في مشروع الانفصال، مع العلم بأن السعودية وعدت الانفصاليين بالدعم في حال تم انفصال الجنوب، وهو ما تم بعد ذلك.
وكان علي سالم البيض قد اتصل بعلي عبد الله صالح أثناء رحلته العلاجية إلى الولايات المتحدة، وعرض عليه رغبته في الاتصال بنائب الرئيس الأمريكي آل غور، فخوله علي صالح اللقاء لبحث العلاقات الثنائية بين البلدين فقط، غير أن البيض عندما بدأ هذه الاتصالات استثنى السفير اليمني محسن العيني من حضورها، مما أثار الشكوك في طبيعة اللقاء والمباحثات التي جرت.
وقد شكا حينها علي سالم البيض من إرسال الرئيس علي صالح الدكتور عبد الكريم الإرياني، الذي كان يشغل منصب وزير التخطيط والتنمية حينها، والسفير أحمد محمد لقمان، بغرض التجسس عليه، عندما أقام الاثنان في نفس الفندق الذي كان يقيم فيه البيض. وعندما عاد البيض إلى اليمن، في 19 أغسطس 1993، اعتكف في عدن ولم يعد إلى صنعاء، ولم يقدم تقريرا للرئيس علي صالح حول نتائج زيارته للولايات المتحدة.
وكانت صحيفة "الشعب" المصرية قد كشفت بأن علي سالم البيض عقد لقاءات سرية مع المسؤولين الأمريكيين، أثناء رحلته العلاجية إلى الولايات المتحدة، وأن تلك اللقاءات كانت بترتيب من السفير السعودي لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان، بهدف التهيئة لعملية الانفصال.
وبعد أن اشتدت وتيرة الأزمة، تقدمت الأردن بوساطة، في يناير 1993، أفضت إلى التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق، لكن السعودية ودول خليجية أخرى اعترضت على الوثيقة، بحسب حديث لسالم صالح محمد مع جريدة "السفير" اللبنانية، بتاريخ 12 أبريل 1995، وكان قد تم التوقيع على الوثيقة في 20 فبراير 1994، وبعد التوقيع لم يعد علي سالم البيض إلى صنعاء، ولكن توجه إلى السعودية، بينما توجه مساعده في الحزب الاشتراكي، سالم صالح محمد، إلى الكويت ودولة الإمارات، وكانت تلك الزيارات السبب الرئيسي في فشل وثيقة العهد والاتفاق، وتم خلالها التنسيق لدعم الانفصال، وبنفس الوقت عدتها وزارة الخارجية في صنعاء خروجا على النظام المتعارف عليه عند قيام مسؤولين بزيارات إلى الخارج دون علم الرئاسة ووزارة الخارجية، علما بأن دولة قطر حينها رفضت استقبال سالم صالح محمد، وكانت هي الدولة الخليجية الوحيدة التي ساندت الوحدة اليمنية.
وكان من اللافت أنه حتى الموقف المصري من الوحدة اليمنية تأثر بالموقف السعودي، وصرح الرئيس المصري محمد حسني مبارك بأنه لا يمكن فرض الوحدة بالقوة. ووصف الرئيس علي صالح الموقف المصري من الوحدة اليمنية قائلا إن الرئيس مبارك "تأثر بالحمى السعودية"، في مقابلة مع جريدة "السفير" اللبنانية في صنعاء، بتاريخ 12 أبريل 1995.
وعندما بدأ الحزب الاشتراكي الاستعداد عمليا لإعلان الانفصال، قدمت السعودية ودول خليجية أخرى له الدعم بالمال والسلاح، وقد تم ضبط بعض الأسلحة حينما أُجبرت إحدى الطائرات الأوغندية على الهبوط في مطار الحديدة، وتبين أنها إحدى طائرات المخابرات البريطانية، واعترف الطيار بأن تلك كانت ثامن رحلة إلى عدن. كما وصلت باخرتان محملتان بالأسلحة إلى ميناء عدن، وتحملان العلم البلغاري، وجاءتا عن طريق الكويت التي دفعت قيمة الأسلحة والبالغة 200 مليون دولار، بحسب ما أورده عبد الولي الشميري في كتابه "1000 ساعة حرب".
كما أن السعودية اشترت 30 طائرة "ميج 29"، وقدمتها للحزب الاشتراكي، ووصلت منها 12 طائرة استخدمها الانفصاليون في الحرب، وأكد عبد ربه منصور هادي، وزير الدفاع أثناء الحرب، في حوار مع مجلة "أخبار الدفاع" (Defense News)، في 19 - 25 ديسمبر 1994، أن السعودية مولت كلفة تلك الطائرات، وقد تم شحنها من مولدافيا إلى بلغاريا وجنوبي أفريقيا، وكانت متجهة إلى عمان لكنها وصلت إلى حضرموت.
لقد بذلت السعودية، خلال أزمة وحرب صيف 1994، جهودا سياسية وإعلامية واقتصادية من أجل نجاح مشروع انفصال جنوب اليمن، وكان الأمير سلطان والأمير نايف ووزير الخارجية سعود الفيصل من أكثر المسؤولين السعوديين تشددا وتحمسا لتجزئة اليمن، بحسب وزير التخطيط والتنمية حينها، الدكتور عبد الكريم الإرياني، في حوار مع جريدة "السفير" في صنعاء، بتاريخ 13 أبريل 1995.
ماذا بعد؟
تبدو السعودية اليوم أمام اختبار عملي بشأن موقفها من الوحدة اليمنية، وأمام خيارين كلاهما مر: الأول، هل تستغل الظرف الراهن لفرض الانفصال كأمر واقع، كفرصة تاريخية لا يمكن أن تعوض، مع ما يترتب على مثل هكذا خيار من خطر يتمثل في تسليم دولة الشمال للحوثيين وإيران على طبق من ذهب، والتي ستتحول مستقبلا إلى تهديد جدي يستهدف وجود السعودية من أساسه؟ أم الإبقاء على الوحدة اليمنية مع استمرار المخاوف من إمكانية نهوض "اليمن الموحد" بشكل لا ترضاه الرياض؟
تؤكد المؤشرات بأن الموقف السعودي من الوحدة اليمنية حاليا في حالة اضطراب وعدم استقرار، وأنها لم تحسم أمرها بعد، رغم ميلها الواضح لانفصال جنوب اليمن، كخيار ظلت تعمل لأجله منذ عدة عقود، ولعل ذلك ما يفسر استمرار خيار الحرب المفتوحة حتى تتضح الكثير من الأشياء، ليتم بعدها تقرير مصير اليمن، حتى وإن كان الموقف الشعبي في أغلبه رافضا لإملاءات الخارج، إلا أن القوة العسكرية هي من ستحسم في الأخير المخطط المرسوم.
ويمكننا القول بأن ما يحدث في عدن ولحج وأبين لا يعدو كونه مجرد "جس نبض"، بالنسبة للسعودية، لاختبار طبيعة ردود الفعل الشعبية والرسمية والدولية من مسألة الانفصال، وعلى ضوء هذه الردود والمواقف سيتم تحديد ملامح السيناريو التالي. ويبدو أن الجميع يقودون اليمن والمنطقة بشكل عام إلى سيناريوهات قاتمة، نظرا لغلبة منطق "الحقد" على التفكير الإستراتيجي وجعل الأولوية للمصالح المشتركة.