[ الروائي اليمني علي المقري ]
قبل أكثر من 20 عامًا، بدأ الكاتب اليمني علي المقري -المولود في تعز (1966)- مشواره الأدبي بثلاث مجموعات شعرية، "نافذة للجسد" و"ترميمات"، و"يحدث في النسيان". ثم ولج عالم الكتابة الروائية بـ"طعم أسود.. رائحة سوداء" (2008)، تلتها "اليهودي الحالي" التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام (2011)، وتُرجمت إلى الفرنسية والإيطالية والكردية.
تتابعت مؤلفاته بعد ذلك بوتيرة منتظمة، وسلك درب الرواية محتفظًا بتجربته الشعرية في ألق البداية، فهو يختبر تجارب سردية جديدة، ثم يجتازها.. فمن "طعم أسود" إلى "اليهودي الحالي" إلى رواية "حُرمة" ثم "بخور عدني"، ليطل علينا مؤخرًا من باريس بروايته الجديدة "بلاد القائد" ليوحي من البعيد "إنكم معتقلون في بلاد القائد"، ومن الوارد أن يكون المقري قد كتب هذه الرواية لينجو من بلاد القائد التي غادرها إلى المنافي.
لا يكترث المقري لفعل الكتابة بذاته، ما يؤرقه هو البحث عن إشكالية ما سيكتب، وسؤال لماذا؟ فهو يريد أن يختبر أسئلة جديدة ومختلفة في كل تجربة.
"الموقع بوست" حاور الكاتب المقري، فكان هذا النص:
* بداية، ما الذي تمثله لك الكتابة في المنفى، وبأي صورة يحضر اليمن في منجزك الروائي؟
** تغيّر المكان بدا لي كالعاصفة في حياتي الكتابية، لهذا لم أستطع أن أنجز روايتي "بلاد القائد" بعد أن غادرت اليمن؛ سوى بعد محاولات عديدة استمرت أكثر من أربع سنوات.
من هنا يمكن القول إن المكان اليمني بقي حاضرًا، وقد تمثل هذا الحضور من خلال عدم التكيُّف، في الكتابة، مع أمكنة جديدة، وأنا أشدد هنا على عبارة في الكتابة لأن عدم التكيف في الكتابة لا يعني عدم التكيف مع الحياة الجديدة والمغايرة لما كنا نعيشه في اليمن.
لا يبدو أن اليمن غادرتني لحظة واحدة، نحن في بلداننا نعيش في ما يشبه المنفى بسبب التضييق على الحرّيات الشخصية بما فيها حرّية التعبير، وللأسف حين نغادر هذه البلدان فإنّها تبقى فينا بهمومها ومشاكلها اليومية.
* الجنس ركيزة أساسية في أدبك، ما الذي قد يعنيه هذا في مجتمع ديني مُحافظ كاليمن؟ وهل يُمكن أن تُصنٙف رواياتك ضمن الأدب الأيروتيكي؟ ولماذا؟
القول بـ "مجتمع ديني محافظ" هو تعميم أوجدته الأنظمة الدينية العسكرية والشمولية، وصار يُكرّس كحقيقة، ولا يختلف هذا القول عن المقولات الشمولية الأخرى كتلك التي كانت تصف بعض المجتمعات بـ: مجتمع الاشتراكية العلمية، أو القومية العربية.
نحن نعيش في مجتمع سطت عليه عسكرتارية دينية تريد أن تسيّر الأمور كما تريد، ولهذا ليس من المصادقة أن القائمين على الشؤون الدينية، جماعات أو هيئات رسمية، تعمل مع أنظمة القمع في التضليل على المجتمعات بنشر الخطاب الديني.
لا أظن أن هناك مشكلة في أن يكتب أحدهم رواية عن الجنس ويختبره كمحنة إنسانية، المشكلة كما تبدو لي هي في تبجيل القمع الجنسي والكبت سواء في الواقع أو في الكتابة. كل كُتب التراث العربي ممتلئة بالجنس، بما في ذلك الكتب الدينية، ولا أظن أن الثقافة العربية قد بلغت ذروة الانحطاط كما يحدث الآن، إذ صار من المحرّم الحديث عن الجنس.
من أعمال الروائي المقري
رواياتي تبحث في إشكاليات تَحقُّق بعض الجوانب الإنسانية، ومنها العلائق الجنسية، لكنها ليست مخصصة للجنس كي يتم تصنيفها في الأدب الأيروتيكي، فهذا الأدب الغير معروف حالياً في المكتبات العربية يتواجد في مختلف مكتبات العالم وله أقسام خاصة فيه، وطبعاً المطّلعون على هذا الأدب يعرفون أن روايتي لا تنتمي إليه.
* هل لك أن تُحدثنا عن روايتك الجديدة "بلاد القائد"، وما مدى اقترابها من معضلة الدولة العربية؟
** أولاً، كما يبدو لي، ليس من مهمة الرواية، أي رواية، الاقتراب من معضلة أو مشكلة أي دولة، إذا لم تكن هذه المشكلة بمثابة الامتحان الوجودي لمسألة ما.
لهذا أظن أن روايتي "بلاد القائد" تمتحن إشكالية الديكتاتورية في العالم العربي من جانب فني روائي، إضافة إلى ما تُخلّفه الأنظمة القمعية بعد رحيلها، حيث يبدو الناس وكأنهم خرجوا من سجن أبدي لم يتصوروا في يوم ما أنهم سيخرجون منه، ولهذا يتصرفون وكأنهم حصلوا على حياة إضافية زائدة لا يعرفون ماذا يعملون بها، فيبدو توحشهم مع كل من حولهم، ليس مع بقايا نظام الديكتاتور فقط؛ وإنما أيضا مع المختلفين معهم الذين قاسوا إلى جوارهم معاناة القمع والتسلط.
* إلى أي حد تقترب الكتابة الروائية لديك من ربكة الواقع اللحظي وإشكالاته.. وما الذي قد تأخذه الرواية من الواقع. في المقابل؛ ما القيمة التي تضيفها له؟
** أظن أن مسألة علاقة الكتابة بالواقع قد أشبعت من قبل منظري الأدب والفن، فأنا أكتب رواية، أي عملاً فنيًا، وليس من شروطه، في بنيته التخيُلية، الاقتراب من الواقع، بل في تحقق وجوده الفني كيفما كان.
* في حوار سابق لك، قلت إنك تمتحن إشكاليات وجودية إنسانية في رواياتك، ولا تنحصر من حدود معينة. إلى أي حد يذهب أدبك في هذا الحقل العمومي؟
** الحقل العمومي هنا، كما أفهمه، لا يعني الشمولية كما لا تعني ذلك الإشكاليات الوجودية، فقد يعود ذلك إلى مسائل فردانية وشخصية، ومن هنا قد يتقاطع معها القارئ في أي مكان.
بلاد القائد .. رواية سياسية للمقري
* في منجزك الأدبي نجد معالجات فريدة لثلاث فئات اجتماعية مُضطهدة في اليمن؛ المهمشون، اليهود، المرأة. بأي شكل قد يتحقق خلاص هذه الفئات؟
** في الحقيقة، لم أبحث عن خلاص لهذه الفئات، فأنا لا أنطلق في كتاباتي من منظور ديني يرى إمكانية تَحقُّق الخلاص الفجائي أو المُطهر لهم ككائنات معذبة. ما كنت آمله هو أن أختبر أسئلة الوجود غير المتحققة في حياتهم عبر إشكاليات أخرى كمفهوم الوطن ولماذا الوطن؟ وهل هو ضرورة وكيف يتحول إلى قسوة؟ وبالتأكيد ستتولد أسئلة جديدة مع الحال المعاش.
* يُقال إن الكاتب يبحث عن الحقيقة، لكنه يروي الأكاذيب في كل خطوة على الطريق إليها. ما هي العلاقة التي تربط الرواية بالحقيقة؟ وماذا تعنى الحقيقة الروائية بالنسبة لك؟
** الحقيقة الروائية بالنسبة لي هي أن ليس هناك حقيقة.
* أحيانًا لا يستطيع القارئ التمييز بين الخير والشر في بعض الأعمال الروائية، هل يمكننا القول إن براعة الرواية تكمن في مدى توغلها في المنطقة الرمادية للثنائيات النقيضة في الحياة؟
** ثنائية الخير والشر تعود إلى مفاهيم دينية كتلك التي لدى الهندوس والزرادتشية والمأنوية والإسلام، ولا أظن أن الاشتغال الروائي ينطلق من هذه المفاهيم.
* ترفض الأديان والأيديولوجيات الخلاصية التصالح مع الرواية، وتطلب منها أن يكون ثمة أحد على حق، وهذا ما لا تُفصح عنه الرواية، ويبقى الموقف عالقًا بينهما. كيف تنظر لهذه الإشكالية العلائقية؟
** هذا سؤال مهم، ويجيب على السؤال الذي قبله. ما أظنه أن الرواية نص أدبي يفكك ويختبر عوالمه المُختبرة الخاصة بكل تناقضاتها، وبالتالي فهو لا ينتمي إلى حقيقة مطلقة ولا يعتمد على الوعظ أو التبشير.
* بحسب ميلان كونديرا، فإن الرواية التي لا تكتشف جزءاً من الوجود ما يزال مجهولاً؛ هي رواية لا أخلاقية. ما هي معايير تقدُم الرواية من وجهة نظرك؟
** الأخلاقية كما تبدو لي هنا بمعنى القيمية، فهناك مئات الروايات التي تُنشر يوميًا ولا تكشف عن شيء في هذا الوجود ومع هذا تجد قُراء كثر يحتفون بها، وهم لا يستطيعون أن يتخلوا عن مثل هذا النوع من الروايات لأن فيها متعة، أو عزاء ما على مواصلة الحياة.
بالنسبة لي الرواية تتقدّم حين تختبر أسئلة جديدة، دون أن تجيب عليها.
* ما هي عادات الكتابة لدى الروائي علي المقري؟
** عادة ما يلازمني حدث معين أو سؤال أو ذكرى تظل تلاحقني باستمرار، فأبدأ أنشغل بكل ما يتعلق بها؛ أحياناً أقوم في البحث عن ذلك في الكتب وفي الحياة، وقد يستمر هذا سنوات طويلة، حتى أقرّر الجلوس والبدء في الكتابة. كتابة النص عادة لا تحتاج إلى وقت طويل، ولكن البحث عن إشكالية ما سأكتبه ولماذا أكتبه وهل هناك من جديد فيه؟ هو ما يؤجل عادة الكتابة إلى أن أشعر أنها صارت ملحة.
* هل من طقوس محددة تحضرك لدى شروعك في كتابة عمل جديد؟
** بالتأكيد، عليّ أن أتفرغ تماماً للكتابة، ويلزمني ذلك أن أحدد كل تفاصيل الاحتياجات اللازمة من مكان ووقت وتكلفة مالية لكل شيء ومن ذلك نوع الغذاء والشراب والموسيقى، وكل ما يؤدي إلى صحة الجسد وعافية البال، وهي أشياء تُكتسب كخبرة مع الزمن، إلى جانب العزلة أولاً وأخيراً. وأظن أني لو كتبت كل التفاصيل لاحتجت إلى صفحات كثيرة.
* هل أنت راض عن مُنجزك الأدبي، ولماذا؟
** حين أكتب رواية؛ أتمنى ألا يداهمني الموت حتى أنجزها، حصل ذلك خمس مرات. أي أنني كنت أرى أهمية لما أكتبه، ولا أدري الآن هل فعلاً كنتُ مُحقاً.