[ رفعت ثورة فبراير شعار السلمية منذ اليوم الأول لها ]
يعد الجانب الأخلاقي في الثورات الشعبية ضد الأنظمة الحاكمة الفاسدة والمستبدة من الجوانب المهمة في التوثيق للثورات وكتابة تاريخها، لأن الثورات بحد ذاتها تمثل عملًا أخلاقيًا حضاريًا ووطنيًا ضد الهمجية والانحطاط الأخلاقي للأنظمة الفاسدة والمستبدة.
ويمثل الجانب الأخلاقي لثورة 11 فبراير 2011 من أهم الجوانب الجديرة بالتأمل، كون الثورة تعكس الرقي الأخلاقي للثوار مقابل همجية النظام الحاكم وانحطاطه الأخلاقي، لأن الثورة بدأت سلمية بامتياز، بينما النمط السائد في الثورات عبر التاريخ هو العنف المسلح ضد النظام الفاسد والمستبد، مع استثناءات محدودة، وعدم حدوث ذلك في مجتمع قبلي ينتشر فيه السلاح بكثرة، مثل اليمن، يعد عملًا حضاريًا وراقيًا بامتياز.
إن ثورة 11 فبراير 2011 التي عسكرها الراحل علي صالح والحوثيون، بدأت سلمية وحضارية، لها أدواتها الناعمة والمخملية المتمثلة في الاعتصامات والمظاهرات السلمية، والتعبير عن المطالب الشعبية من خلال الشعارات واللافتات والأغاني الوطنية والأناشيد الثورية التي تتخللها الرقصات الشعبية أحيانًا، وبدون أن يحمل الثوار حتى مسدسًا أو سكينًا أو يعتدوا على جندي أو شرطي أو يهاجموا منشأة حكومية، وتمثل جميعها عملًا حضاريًا راقيًا يكشف التفوق الأخلاقي للثوار، الذين اضطروا أخيرًا لحمل السلاح دفاعًا عن ثورتهم.
الثورة كظاهرة أخلاقية
المتأمل في تاريخ مختلف الثورات في العالم أجمع، خاصة أسبابها والظروف الممهدة لها، ثم مراحل تعثرها وحتى تحقق أهدافها، سيجدها وكأنها نسخة واحدة. كما أنه لم يسبق أن اندلعت ثورة واحدة عبر التاريخ كحالة عبثية وبدون أسباب ومطالب كبيرة تمثل حلم الجماهير الواعية، أو تعكس الأنين من الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي الذي تمارسه الأنظمة الفاسدة ضد المواطنين.
وكذلك الأمر بالنسبة لثورة 11 فبراير 2011 الشعبية السلمية، فهي لم تكن مجرد ثورة عبثية جاءت كنتاج لمماحكات سياسية كما يحاول أعداؤها تصويرها، فالمماحكات السياسية لا تنتج ظاهرة ثورية، لأن الظاهرة الثورية تمثل في الأساس ظاهرة أخلاقية وحضارية لا مجال للمقارنة بينها وبين المماحكات السياسية.
كما أن شعارات الثورة والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها لا تقتصر على التغيير الشكلي للنظام الحاكم فقط، ولكنها ثورة أفكار ومفاهيم من شأنها ترشيد أو إعادة ترتيب الحالة السياسية في البلاد بشكل عام، سلطة ومعارضة، وزيادة الوعي الشعبي لدى المواطنين بخصوص حقوقهم السياسية وغيرها، وتعرية النظام الفاسد وإظهاره على حقيقته.
وهنا يكمن السبب الرئيسي الذي جعل الجميع مرتبكين في بداية الثورة، بما في ذلك أحزاب المعارضة الرئيسية (اللقاء المشترك)، التي أعلنت انضمامها للثورة بعد نحو شهر على اندلاعها، ودعت أنصارها إلى الالتحاق بالثورة، رغم أن عددًا كبيرًا منهم كانوا ضمن من أشعلوا الثورة، واكتشفت قيادات أحزاب المعارضة أن جماهيرها لديهم رؤية سياسية متقدمة، كونهم أدركوا أن نظام علي صالح لم تعد تنفع معه سوى الثورة، وليس الحوارات العبثية مع أحزاب المعارضة.
اقرأ ايضا: في ذكرى 11 فبراير .. أربع دوائر عدائية طوقت حلم التغيير في اليمن
إن السبب الرئيسي لاندلاع ثورة 11 فبراير 2011 هو نفس السبب الرئيسي الذي اندلعت لأجله كل ثورات الشعوب في العالم ضد أنظمتها الحاكمة الفاسدة والمستبدة، أي تراكم فساد واستبداد النظام الحاكم من جهة، وتراكم السخط الشعبي إزاء ذلك من جهة أخرى، حتى يصل الأمر إلى اندلاع الثورة والمواجهة المصيرية بين الطرفين.
ويعني ذلك أن أي إدانة لهذه الثورة فهي تُعد إدانة لكل الثورات الشعبية في العالم، وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر ارتدادًا أخلاقيًا عن الفضيلة والحرية، لدرجة أن هناك من نفى صفة "الوطنية" عن الذين لا ينحنون احترامًا وإعجابًا بالثورات التي تنشد الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وحرية الرأي والتعبير.
بعد اندلاع الثورة الفرنسية وسقوط سجن الباستيل بأيام قليلة، كتبت صحيفة ذا مورننج بوست البريطانية، في عددها الصادر بتاريخ 21 يوليو 1789، فقرة رائعة ردًا على من يدينون تلك الثورة وغيرها من الثورات، ما زالت متداولة في المؤلفات الضخمة حول الثورات حتى يومنا هذا، وهذه الفقرة هي:
"إن الإنجليزي الذي لا ينحني احترامًا وإعجابًا بالأسلوب الجليل الذي تجري فيه الآن واحدة من أعظم الثورات التي شهدها العالم، لا بد أن يكون عديم الإحساس بالفضيلة والحرية، وهو لن يكون من أبناء وطني الذين كان من حسن حظهم أن يشهدوا ما جرى خلال الأيام الثلاث الماضية في هذه المدينة العظيمة، وعلى أن ما أقوله لا غلو فيه ولا شطط".
الثورة والتباين الأخلاقي
كما أن الجانب الأخلاقي في الظاهرة الثورية، كما هو الحال بالنسبة لثورة 11 فبراير، يكشف عن التباين الأخلاقي بين الجماهير الثائرة والنظام المستبد والفاسد، ذلك أن الثورة، أي ثورة في العالم، لا تعد عملًا أخلاقيًا بحد ذاتها، نظرًا لما يترتب عليها من حروب ودمار ودماء، والحديث هنا عن الثورات المسلحة، لكن الجماهير تضطر إليها بعد أن تستنفد كل وسائلها السلمية والحضارية في مطالبة النظام الحاكم بالإصلاح والتغيير.
من جانبه، يرد النظام الفاسد على هذه المطالب بالقمع والمزيد من الاستبداد، كما فعل الرئيس الراحل علي صالح ونظامه ضد المظاهرات الشعبية قبل اندلاع ثورة 11 فبراير وبعدها، أي أنه واجه الرقي الأخلاقي للجماهير بالهمجية والعنف والقتل، وحاول جرها إلى مستواه الأخلاقي الهابط المتمثل في القتل وسفك الدماء، أي عسكرة الثورة، لاعتقاده أنه بذلك سينتصر على الجماهير، مما يضطر الجماهير في الأخير إلى مواجهة النظام بالأدوات التي يعرفها، باعتبار أن "آخر العلاج الكي" بعد فشل كل الوسائل الحضارية الأخرى.
فكرة الثورات الناعمة
مع ازدياد وتنوع أدوات القمع لدى الأنظمة المستبدة، وما يترتب عليها من قتل ودمار، لجأت الشعوب والجماهير الثائرة إلى سلوك أساليب أخلاقية وحضارية للتعبير عن مطالبها واحتجاجها على فساد واستبداد الأنظمة الحاكمة، فظهرت فكرة الثورات السلمية والناعمة بدلًا من الثورات المسلحة، وتتمثل أدواتها في المظاهرات والاعتصامات السلمية واللافتات والأغاني الوطنية والأناشيد الثورية التي تعبر عن مطالب الجماهير الثائرة، كما هو الحال بالنسبة لثورة 11 فبراير 2011 وغيرها من ثورات الربيع العربي.
لكن النظام الفاسد والمستبد عمل بكل جهده على جر الجماهير الثائرة وأسلوبهم الحضاري الحريص على حقن الدماء إلى أسلوبه الهمجي والمتخلف المتمثل في القتل وسفك الدماء، كون هذا الأسلوب هو البضاعة الوحيدة التي يمتلكها ويجيد استخدامها، ووجّه بلاطجته بقتل الثوار في ساحات الاعتصام وهم عزل لا يحملون السلاح، وتعمد تشويههم أخلاقيًا من خلال اتهامهم بتهم سخيفة كالاختلاط وغيرها، ووجّه وسائله الإعلامية للسخرية من الأسلوب الحضاري والأخلاقي للثوار، مستهجنًا الرقص على وقع الأناشيد والأغاني الثورية، وكأن ذلك عمل لا أخلاقي، بينما القتل الذي يمارسه ضدهم يراه عملًا أخلاقيًا وحضاريًا مطلوب منهم السير على نهجه.
نتيجة الانحطاط الأخلاقي
استغل النظام الفاسد لعلي صالح، وبعض دول الجوار وبعض الأطراف في الداخل، الظروف المحلية والإقليمية التي أفرزتها الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، ونجح في عسكرة الثورة، وجرها إلى مربع العنف والقتال الذي كان هو من أسوأ وأبشع ضحاياه، بل وكانت نهايته تعكس همجية طرفي الثورة المضادة اللذين تحالفا ضد الثورة الشعبية، وهي الثورة التي وصلت ذروتها الأخلاقية، وبشكل سلبي، عندما منحت رأس النظام الفاسد وكبار معاونيه الحصانة من الملاحقات القضائية جراء الجرائم التي ارتكبوها ضد الشعب.
في مؤتمر حول دستور فرنسا، عقد بتاريخ 24 أبريل 1793، قال سانت جوست، وهو أحد رواد الثورة الفرنسية، في خطاب ألقاه في المؤتمر: "إن الأمم المستنيرة ستسارع إلى محاكمة أولئك الذين حكموها حتى الآن.. سيهرب الملوك إلى الصحراء، ليعايشوا الوحوش الضارية التي يضاهونها وحشية، وسوف تستوفي الطبيعة حقوقها".
اقرأ ايضا: لماذا اندلعت ثورة 11 فبراير 2011؟
وفي الحالة اليمنية، لم تتم محاكمة علي صالح ولو شكليًا، ولم تهمل محاكمته بسبب ظروف البلاد وحالة التوازن التي كانت قائمة، أو تؤجل محاكمته إلى الوقت المناسب، وهو ما جعل علي صالح لا يهرب إلى الصحراء ويعايش الوحوش، ولكن لجأ إلى جماعة الحوثيين القادمة من الكهوف ومن مخلفات التاريخ، وتحالفت الثورة المضادة لثورة 11 فبراير 2011 مع بقايا الثورة المضادة لثورة 26 سبتمبر 1962.
وكانت النتيجة أنه حصل أسوأ انقلاب عسكري في تاريخ الانقلابات العسكرية في العالم أجمع، نظرًا لما ترتب عليه من حرب أهلية ودمار وسفك للدماء، وتدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين بشكل غير مسبوق، وتدخل عربي متخبط وبدون هدف واضح، وتمزق سياسي واجتماعي ومذهبي ومناطقي تتعقد معه فرص الحل السلمي أو الحسم العسكري، وكل ذلك من شأنه إطالة أمد الأزمة وإنهاك مختلف أطراف الحرب، وخاصة دول التحالف العربي.