تواصل الروائية التركية أليف شافاق، في روايتها "جزيرة الأشجار المفقودة" (ترجمة أحمد المعيني، دار الآداب، بيروت، 2022)، إدهاش قرّائها بقدرتها الاستثنائية على السرد الرشيق الشائق المتنقل في الأمكنة والأزمنة بيسر وانسيايبة، فتضفي على النص الروائي كثيرا من الصدق الفني والإبداع والجمال والحرفية. أهدت الرواية إلى "المهاجرين والمنفيين في كل مكان، أولئك المنبتّين عن جذورهم، ومن غرسوا لهم جذورا جديدة، من لا جذور لهم، وإلى الأشجار التي تركناها وراءنا، المتجذّرة في ذكرياتنا".
فتحت شافاق باب الحكي على مصراعيه، وبثت الحياه في التاريخ، كي تسرد قصة الجزيرة القبرصية، كما لم تُروَ من قبل، بما مر بها من احتلال وحروب أهلية طاحنة وتقسيم (كلّ قسم تغشاه لغة مختلفة وخط مختلف وذاكرة أخرى، بل نادراً ما يكون الإله الذي يبتهل إليه أهل الجزيرة نفسه عند الجميع)، ذلك التقسيم الذي مزّق قبرص من طرفها إلى الطرف الآخر بالخط الأخضر، منطقة عازلة تشرف عليها قوات الأمم المتحدة. وفي وسط ذلك الفضاء العنيف الدموي الممزّق في مطلع السبعينيات، تنمو قصة حب مستحيلة بين فتاة تركية وشاب يوناني يُقابَل بالرفض والمقاومة والإدانة. وحين تشتد الحرب الطائفية العرقية، ويسقط آلاف القتلى، يفترق الحبيبان، ليبدأ الشاب، راضخاً لتوسّل أمه الأرملة التي فقدت ولديها في الحرب، حياة جديدة في لندن، ملاحِقا عن بعد ما يجري في بلاده الجميلة التي حوّلتها الصراعات السياسية والدينية إلى خراب.
تخوض الروائية في تفاصيل تلك المرحلة بكل ما فيها من ألم وقسوة ووحشية، مستندة إلى الوثيقة التاريخية، لتضع القارئ في قلب الأحداث الجسيمة التي أدّت إلى قبرص مقسّمة، رغم وحدة الأرض والتراب والطيور والأشجار.
تمزج حكاية الحب وقد استُؤنفت بين الحبيبين الذين تقطعت بهم السبل سنوات طويلة، قبل أن يعودا معا ويتزوجان وينجبان ابنة بريطانية المنشأ، لم تنس جذورها في بلاد بعيدة لم تزرها. تمزج شافاق ببراعة الحقائق التاريخية بالحكايات القديمة والأساطير اليونانية والمعتقدات الغابرة، وتروي على لسان شجرة تين عتيقة الحكاية كلها، حكاية الحب والهجر واليأس وشهوة الحياة التي يصعب إيقافها مهما سال من دماء، ومهما جرى من ظلم وتجبّر وعدوان. تأخُذنا شجرة التين الساردة الأساسية في الرواية إلى عوالم النباتات الخفية المدهشة، وتخصص حيزا تثقيفيا يتناول خفايا حياة الطيور والحشرات الصغيرة من فراشات ونحل وغيرها، وطقوسها العجيبة، في توظيف موفّق يخدم النص الروائي، من دون أن يطغى عليه، رغم زخم المادة العلمية المجرّدة.
تلاحق القارئ شخصيات الرواية في مراحلها المختلفة التي لا تبدو منضبطةً في سياق زمني أو مكاني محدّد، لينتهي، في المحصلة، إلى منتهى الانضباط والدقة، حين تكتمل اللوحة تماما، مثل لعبة "البازل" التي تبدو، في البدء، لغزا عصيا على التفكيك، وتأخذ زمنا طويلا في تحديد ملامحها، غير أنها تنتهي لوحةً جميلةً مكتملة العناصر. الاعتناء بأدقّ التفاصيل هو ما يميّز أليف شافاق في منجزها الروائي بالمجمل، ما يجعلها من أكثر كتاب الرواية إنجازا وتأثيرا.
يشهد لها بذلك الروائي التركي (نوبل للآداب 2006) أورهان باموق، حين يقول "أليف شافاق أفضل من كتب الروايات في تركيا في هذا العقد". إضافة إلى شغلها البحثي الدؤوب قبل الشروع في أي عمل روائي، حرصا منها على تلبية توقعات القارئ. ولا تختلف رواية "جزيرة الأشجار المفقودة" عن إرثها، بل باتت أكثر قدرة على الإمساك بمقاليد اللعبة الصعبة. وقالت الروائية والشاعرة والناقدة الكندية مارغريت أتوود: "ما أروعها من رواية تفطر القلب، وأحد الرواة شجرة تين!".
حقا، إنها رواية تفطر القلب وتبهج الروح وتحرّض الخيال. وهنا بالضبط يكمن الإبداع كله.