اليمن السعيدة «أرابيا فيليكس» هو الاسم الذي أطلقه الرومان في القرن الأول قبل الميلاد على الجزء الجنوبي الغربي من جزيرة العرب، الذي صار يدعى لاحقاً، في الكتابات العربية، والإسلامية بخاصة، باسم اليمن. والصفة «فيليكس» في اللاتينية تفيد كذلك «الخصيبة» تمييزاً لتلك الزاوية من جزيرة العرب عن البقية الأكبر، الممتدة إلى شواطئ الخليج من الشمال الشرقي، التي أطلق الرومان عليها اسم «أرابيا ديزيرتا» أي الصحراوية.
كان اهتمام الرومان من القرن الأول قبل الميلاد بتلك المنطقة بسبب كونها المركز الرئيس لتجارة التوابل القادمة من آسيا والصين، وخصوصاً «الدراسيني» أي «القرفة» إلى جانب الكثير من التوابل والعطور. وبقيت التوابل والعطور المشرقية الدافع الرئيس وراء حركة الاستكشافات الأوروبية التي اضطرتهم للدوران بسفنهم حول رأس الرجاء الصالح وصولاً إلى الهند، وأحسب أن ذلك كان الدافع الرئيس لفتح قناة السويس.
وقبل الرومان كان الإغريق يهتمون بتلك المنطقة من الجزيرة العربية. وكان وجود الإغارقة التاريخي في الاسكندرية ومصر قد سهّل عليهم النزول جنوبا وعبور باب المندب، للوصول إلى «آيو دايمن» أي عدن، وللأسباب التجارية نفسها.
وبالنسبة لنا نحن العرب، لم تكن اليمن… السعيدة (سابقاً) مهمة بسبب كونها المصدر الرئيس للقهوة، من «مُخا» التي حوّرتها اللغات الأوروبية إلى «موكا كوفي» لكن بقيت «آرابيكا كوفي» هي النوع الأفضل في أوروبا والعالم، على الرغم من منافسة القهوة البرازيلية.
واليوم لم يبق شيء من «القهوة العدنية» فقد حل محلها «القات» الذي يتسبب في «الإنسطال» بدل «التنبيه» لذلك لم تُعد القهوة العدنية معروفة في زماننا، حتى عند ملك القهوة في وسط شارع الرشيد ببغداد، آرتين الشيخ الأرمني الذي أجاب عن سؤالي بامتعاض قائلا «نهنَ ما يأرف قهوة أدَني مَدني… هذا قهوة مال هوكومه». والحق أن القهوة بمعناها الحديث لم تكن معروفة في جاهلية العرب، إذ كانوا يطلقون اسم القهوة على الخمرة.
قال الأعشى: «نازَعتُهم قُضُبَ الرّيحان مُتكئاً/ وقهوةً مُزَّة» راووقُها خَضِلُ». والراووق قماش من القطن لتصفية معصور الخمرة.
وفي الشعر الأندلسي: «هاتِها لي صفراءَ كالتبرِ/ قهوةً عنبرية النَّشرِ».
ولكننا ورثنا عن اليمن إرثاً ثقافياً نادراً يتمثل في كتاب بقي مجهولاً لأصحاب الثقافة العرب، حتى إلى ما قبل أربعة عقود من اليوم تقريبا، ولا أحسب هذا الكتاب قد نال ما يستحقه من اهتمام في العقود الأربعة الماضية، اللاتوصف، من تاريخنا المعاصر. ذلك هو «كتاب التيجان في ملوك حِميَر» مخطوطة من عمل وهَب بن مُنبّه، عُمرها حوالي خمسمئة سنة، طبعت أول مرة في حيدر آباد بالهند، في مطبعة المعارف العثمانية عام 1347هـ/1928م. والمخطوطة بتاريخ 16 رجب 1034هـ/ أيار 1625م كتبها مُطهّر بن عبد الرحمن المطهّر، السجين بقصر صنعاء لسبع سنوات. كما توجد نسخة أقدم منها في المتحف البريطاني (المكتبة البريطانية) تاريخها 1 شعبان 1031هـ/1621م. وقد وجد الدكتور عبد العزيز المقالح نسخة من تلك المخطوطة في «مكتبة الجامع الكبير بصنعاء» فحرّرها ونشرها عن «مركز الدراسات والبحوث اليمني» عام 1979م.
والكتاب مجموعة من قصص الأنباء والخليقة والملائكة، مما نعرفه من القرآن الكريم، مما أنزل الله على آدم، قبل الطوفان وبعده، ومن خَلقِ الأرض والسماء والملائكة والفصول الأربعة، ومن أخبار هابيل وقابيل وكثير من الأساطير التي تقول إن آدم عاش 930 سنة، وحواء عاشت 928 سنة، وأن اللغة كانت سرياني أو عبراني، وأن اللغة العربية كانت للعرب دون غيرهم، وأن يَعرُب كان أول من نطق بالشعر… الموزون المقفى. وهذه كلها من المعروف غالباً لدى أهل ذلك الزمان، أو من الأساطير التي استطاب الناس قراءتها، بل الإيمان بها. والكتاب تصوير لما كان يستهوي الناس ويشكل «ثقافتهم».
لكن الناحية الأكثر أهمية في الكتاب أنه تاريخ للعرب العاربة والمستعربة والبائدة، بما يشبه الأساطير التي يحلو لبعض الناس قراءتها.
وتجري هذه الأخبار التاريخية بكلام موزون مقفى يقترب من الشعر جِرساً وتصويراً، لكنه لا يبلغ منزلة الشعر، إضافة إلى ما فيه من أخطاء لغوية وعَروضية، قد تكون بسبب جهل الناسخ أحياناً. والذي يجمع مادة هذا الكتاب الأسطورية والتاريخية، الدور الذي قام به معاوية بن أبي سفيان أثناء إدارته شؤون بلاد الشام، في العشرين سنة قبل أن يصبح الخليفة الأموي الأول.
يروي القسم التاريخي من الكتاب أن معاوية كان يحب أن يسمع أخبار الأولين، فرغب في أخريات عمره أن يكون له نديم يسامره في الليالي بأخبار العرب الأوائل، فاقترح عليه عمرو بن العاص أن يستقدم من الرّقَّة عُبيد بن شربَة الجُرهُمي، الذي أدرك آخر من بقي من ملوك الجاهلية، وكان ذا حافظة عجيبة، حوت الكثير من أخبار الأقدمين، شعراً، وتاريخاً، وهو أعلم بأخبار العرب وأنسابها. فاستقدمه معاوية وأكرم وفادته وجعله أنيس لياليه، وطلب من أهل ديوانه ان يسجّلوا تلك الأحاديث، مما شكل لنا مجموعة من الأخبار التاريخية النادرة، قد يصعب على القارئ المعاصر تصديق من له مثل تلك الحافظة. ولكن معرفتنا بالشعر الجاهلي وما بعده عن طريق ما حفظه الرواة، قبل شيوع الكتابة والتسجيل، يبعث على تصديق أن الذاكرة قد تحفظ الشعر كما تحفظ التواريخ والاسماء.
بدأ معاوية بسؤال الجُرهُمي إن كان قد شهد محاولة الأحباش غزو الكعبة، فكان جوابه: كان ذلك بالأمس، أي ان الحدث ماثل في الذاكرة. ثم تطرق الحديث عن عاد وثمود وعن النبي صالح وناقته التي «عقروها» مما نقرأ في القرآن الكريم.
وتطرقت الأسمار عن حروب طسم وجديس، وغزوات القبائل بأسمائها وأسماء أبطالها وقتلاها وسوحها وما تبع ذلك من مصالحة ومصاهرة أو هجرة واغتراب. وثمة قصة سليمان وبلقيس وحكاية الهدهد، أول جاسوس حربي عرفه العالم لأن غيابه عن مجلس سليمان كان بسبب ذهابه إلى قصر بلقيس في السرّ وعاد بوصف عجيب لما رأى.
هذه القصص وكثير من أمثالها يسردها الجُرهُمي بأسلوب «شعري» يصعب علينا اليوم أن نصدق ان حافظة لها مثل هذه القدرة على استيعاب كل هذه «القصائد» الطوال، وكل هذه الأسماء والتواريخ.
ولكن وجود أكثر من نسخة من هذه الأخبار المخطوطة، منها واحدة برواية عبد الملك بن هشام البصري، المتوفى عام 258هـ/833م يحملنا على «التعطيل الطوعي لعدم التصديق» حسب مذهب شعراء الرومانسية. وبذلك يغدو «كتاب التيجان في ملوك حِميَر» مرجعاً تاريخيا، لا يمكن الاستغناء عنه، ولو على مضض.
ومن المعلومات الطريفة مما لا يدعو إلى الجدل ما يخبرنا به الجُرهُمي أن قدماء العرب في اليمن كانت لهم أسماء أيام الأسبوع كالآتي:
الأحد = يوم أوّل / الإثنين = أهوَن / الثلاثاء = جبّار / الأربعاء = دبّار / الخميس = مؤنِس / الجمعة = عروبة / السبت = شيّار. أما كيف جاءت هذه الأسماء فهو ما لا يفيدنا فيه الجُرهُمي. ولا بأس بذلك، إذ يكفي ما فيه من طرافة.
قد يرى بعض المعاصرين أن هذا الكتاب يقع في باب الأساطير؛ ولكن أسلوبه في الرواية والقصص والإستطراد يمثِّل أولى محاولات القصة والرواية في تراث الأدب العربي.