تكتسب الانتخابات البرازيلية زخماً كبيراً داخل وخارج البرازيل، فهي الدولة ذات النصيب الأكبر من حيث المساحة وعدد السكان داخل القارة اللاتينية. وقبل أقل من ثلاث سنوات، كان لولا دا سيلفا في السجن. واستيقظ يوم الإثنين 31 أكتوبر/تشرين الأول ليجد نفسه على طريق العودة إلى رئاسة البرازيل، بعد أن حقق فوزاً بفارق ضئيل في الجولة الثانية من انتخابات الإعادة يوم الأحد، 30 أكتوبر/تشرين الأول.
وهزم لولا اليساري الرئيس جايير بولسونارو، في منافسة مريرة شكّلها عداء أيديولوجي وعداء شخصي. ويمثل فوزه أحد أعظم الانتصارات السياسية في هذا القرن بالنسبة للبرازيل.
الزعيم البرازيلي الأكثر شعبية في أمريكا اللاتينية
في الفترة الأولى التي قضاها في السلطة، بدا لولا وكأنه الزعيم اليساري الأبرز والأكثر شعبية في أمريكا الجنوبية. فقد كان متصدراً موجة "التحول إلى اليسار" بين الحكومات اليسارية المنتخبة في القارة، وميّزه توجهه البراغماتي نسبياً عن الأنظمة اليسارية المستبدة في أماكن مثل فنزويلا وكوبا، كما يقول تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
والآن، يعود لولا إلى السلطة في ظروف سياسية شبيهة في القارة، فمنذ عام 2020 تولت حكومات يسارية السلطة في بوليفيا وبيرو وتشيلي والمكسيك وهندوراس وكولومبيا، والأخيرة حكمها اليمين لفترة طويلة. وقصة صعودها ليست بسيطة، لكن جميعها حدثت في ظلال الجائحة، التي كشفت عن أوجه انعدام المساواة الاجتماعية في العديد من البلدان، لا سيما في أمريكا اللاتينية.
ماذا يعني فوز لولا دا سيلفا للعالم؟
يقول مايكل شيفتر، الرئيس السابق لمركز الأبحاث "إنتر أمريكان ديالوغ" في واشنطن، في تصريح لوكالة فرانس برس: "هذا التوجه يبدو توجه رفض أكثر من أي شيء آخر… أناس يبحثون عن بديل. الكثير من الحكومات المرفوضة في تلك اللحظة في أمريكا اللاتينية إما من اليمين أو يمين الوسط. وقد يتأرجح البندول بسرعة كبيرة في الاتجاه الآخر لو ارتأى الناخبون أن هذه الحكومات قد فشلت في تحقيق نتائج في السنوات المقبلة".
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، يبدو مستبعداً أن نرى لولا يضع نفسه في مكانة الرفيق الأيديولوجي لبايدن، مثلما كان بولسونارو لترامب. وقد يتبنى الموقف نفسه الذي تبنته حكومته منذ أكثر من عشر سنوات، حين كان يروج للبرازيل بأنها بطلة الجنوب العالمي، وفي الوقت نفسه يقف على مسافة من الغرب ويتخذ مواقف مستقلة من مجموعة من التحديات الجيوسياسية الشائكة.
ومثل بولسونارو، قد لا يتخذ لولا موقفاً حاسماً من الغزو الروسي لأوكرانيا، حتى إنه قال في مقابلة، مطلع هذا العام، إن زعيما البلدين يتحملان المسؤولية عن هذه الحرب. وعلى عكس بولسونارو، لم يسعَ لولا لإرضاء الناخبين الإنجيليين عن طريق احتضان إسرائيل، والتعامل مع اليميني بنيامين نتنياهو، الذي قد يعود إلى السلطة بعد انتخابات الثلاثاء، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
تعويل على لإنقاذ "رئتي العالم"
في عهد بولسونارو، تسارعت وتيرة إزالة الغابات في منطقة الأمازون- التي وُصفت لسنوات بأنها "رئتي" العالم- بدرجة خطيرة. فقد أوقف عمل منظمات الحماية البيئية وعطل الوكالات الحكومية المكلفة بتنفيذه. وتم قطع أو حرق ما يقدر بملياري شجرة خلال فترة وجوده في السلطة، حيث عملت حكومته بشكل غير مباشر على تعزيز مصالح التجارة الزراعية البرازيلية.
وبين صيف عامي 2019 و2021، اختفت مساحة من الغابات أكبر من مساحة بلجيكا كاملة. ووفقاً لدراسة نشرتها مجلة Nature العام الماضي، تحولت أجزاء من غابات الأمازون المطيرة من مصرف للكربون إلى مصدر آخر لانبعاثاته.
وهذا مقلق لجميع المنزعجين من آثار الاحتباس الحراري على الكوكب وجهود المجتمع الدولي لمكافحة تغير المناخ. وقد تعهد لولا بفتح صفحة جديدة ووقف إزالة الغابات، تماماً مثلما فعل في السابق حين كان في المنصب. وتوقع أحد التحليلات أن فوز لولا قد يؤدي إلى انخفاض بنسبة 90% تقريباً في إزالة غابات الأمازون خلال العقد المقبل.
وقال لولا بعد فوزه: "البرازيل مستعدة لاستئناف دورها الريادي في مكافحة أزمة المناخ، وحماية جميع مناطقنا الأحيائية، وخاصة غابات الأمازون".
موجة يسارية تحكم أمريكا اللاتينية.. ماذا يعني ذلك لأمريكا؟
من المرجح أن يكون صائباً الحديث عن أن التيار اليساري وهو حالياً أقوى في أمريكا اللاتينية منه في أي بقعة أخرى في العالم، فقد اتجهت الأحزاب اليسارية في هذه المنطقة لتحقيق نتائج جيدة من خلال اقتراح خطاب مختلف عن خطابات النيوليبرالية السائدة التي اتبعتها الحكومات السابقة، واعدةً بعطاءات أكثر للفقراء.
فبعد أن أدت تداعيات جائحة الفيروس الأخيرة إلى خروج 12 مليون شخص من الطبقة الوسطى في عام واحد، عاقب الناخبون في جميع أنحاء القارة حكوماتهم.
بالإضافة إلى ما سبق، لا يمكن التنبؤ برد فعل الولايات المتحدة تجاه هذا الصعود اليساري، فمن الصعب التأكيد على أن توجه الولايات المتحدة الأمريكية سيكون عدائياً أم أقل حدة تجاه هذه الدول.
لكن من الممكن وضع احتمالين لمستقبل العلاقات، أولهم احتمالية إعادة هيكلة العلاقات بدلاً من تدميرها، فقادة اليسار هؤلاء يبدون مختلفين عن قادة الماضي، خاصة في حالة تشيلي والبيرو، فما يقودهم ليس خطابات أيديولوجية قديمة، بل دوافع لتغيير أوضاع اقتصادية صعبة لشعوبهم، ما يدفعهم للابتعاد عن خط العداء المباشر مع الشريك الأول للقارة.
بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة تملك تجربة ليست بالسيئة مع بعض الرؤساء اليساريين، منهم الرئيس البرازيلي المحتمل لولا دا سيلفا، مما يضع احتمالية لإمكانية إنشاء علاقات أكثر واقعية.
بالمقابل، تشكل زيادة التعاون التجاري مع الصين تشجيعاً لبعض دول القارة لاتباع نهج أكثر استقلالية بعيداً عن الولايات المتحدة، فقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للبرازيل وتشيلي والبيرو. رغم أن هذا الاحتمال لا يعطي مجالاً كبيراً للمناورة مع الولايات المتحدة، فإن هذا التعاون بجانب زيادة التحالف بين دول القارة اللاتينية قد يدفع بخطوة كبيرة لتغيير وجهة السياسة في القارة.
بعيداً عن التكهنات، إن ما يميز أغلب يسار اليوم في القارة الجنوبية أنه جاء نتاجاً للتطور السياسي والاقتصادي في القارة وتداعيات الوباء، حيث لا يمثل نسخة أيديولوجية كلاسيكية بقدر ما يتبنى نهجاً أكثر واقعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية.