هددت الإمارات أخيرا بإلغاء صفقة ضخمة مع الولايات المتحدة لشراء مقاتلات من طراز "إف-35" (F-35) تقدّر قيمتها بنحو 23 مليار دولار. وجاء هذا التهديد إثر عراقيل أميركية حالت دون تنفيذ الصفقة في الآجال المقررة، وما لبثت الإمارات أن حصلت على البديل من طرف آخر.
وانطلاقا من هذه القضية، استحضر مراقبون الأزمة الفرنسية الأميركية الأخيرة بشأن اتفاق "أوكس" وإلغاء أستراليا لعقد الغواصات مع فرنسا، في ما صار يعرف بأزمة الغواصات.
وتساءلوا: هل استطاعت باريس أن تردّ الصفعة التي تلقتها من واشنطن قبل أقل من 3 أشهر، بصفعتين، من أجل المحافظة على صورتها كمصنّع ومصدّر عالمي للأسلحة المتطورة، وانتقاما من شركائها القدامى؟
ويكتسب هذا السؤال شرعيته، حسب المراقبين، من أن إعلان الإمارات إلغاء صفقة الطائرات الأميركية جاء بعد أيام قليلة من إبرام أبو ظبي لعقد شراء 80 مقاتلة "رافال" (Rafale) من فرنسا في صفقة تاريخية قدّرت بنحو 17 مليار دولار.
كذلك أعلنت وزارة القوات المسلحة الفرنسية في الفترة نفسها عن إبرام اتفاق بشأن بيع فرقاطات بقيمة 5 مليارات دولار بين فرنسا واليونان، رغم أن الولايات المتحدة كانت على الخط في خصوص هذه الصفقة.
وفي السياق نفسه، أوضحت الوزارة الفرنسية أن العرض الأميركي المنافس بات من الماضي، وقالت لوكالة الأنباء الفرنسية "منذ أن كنا في نقاش مع اليونانيين لم يعد العرض الأميركي مطروحا".
أما الخارجية الأميركية فأعلنت في وقت سابق أنها وافقت مقدّما على خطط لبيع 4 فرقاطات قتالية ومعداتها إلى أثينا بنحو 7 مليارات دولار.
ويرى مدير مركز الدراسات والبحوث حول العالم العربي والمتوسطي في جنيف، حسني عبيدي، أنه لا يمكن الحديث عن صفعة بقدر الحديث عن ردة فعل غاضبة من قبل فرنسا نظرا للخيبة الكبيرة التي تعرضت لها إبان صفقة الغواصات.
وأضاف للجزيرة نت "لا يمكن المقارنة بين الصفقتين، فإخراج فرنسا من الصفقة الأولى يتجاوز قضية حرمانها من مبيعات مهمة تحرم الخزينة من ملايين الدولارات، ولكنها تتعلق بالخروج غير المشرف لفرنسا من تحالف عسكري إستراتيجي جديد تريد الولايات المتحدة أن تقيمه في منطقة المحيط الهندي".
وخلص عبيدي إلى أنه ليس لدى فرنسا الوسائل لكي تنتقم وليس من مصلحتها أصلا أن تنتقم من الولايات المتحدة، ولكنها أرادت أن ترد الاعتبار للصناعة العسكرية الفرنسية المتقدمة لأن صورتها اهتزت بعد خسارتها صفقة أستراليا.
غض الطرف من واشنطن
وإجابة عن سؤال عما إذا كانت الصفقة التاريخية لفرنسا مع الإمارات تمت تحت أنظار الولايات المتحدة وبإشارة خفية منها، قال عبيدي "هذا صحيح 100%، ولدينا معلومات تؤكد أن تفاهمات بين واشنطن وباريس تمت خلال لقاء الرئيسين بايدن وماكرون، على أن تغض الولايات المتحدة الطرف وعلى أن تكون فرنسا هي المزوّد العسكري الأساسي لهذه الدول سواء لليونان أو مصر أو الإمارات العربية المتحدة التي تعلم جيدا أن واشنطن لديها تحفظات تجاهها على طائرات إف-35".
وهو ما يذهب اليه أيضا الخبير في معهد الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية بباريس، إبراهيم أومنصور، الذي يرى أن هذه الصفقة تعدّ من وجهة نظر اقتصادية صفقة رابحة لصناعة الأسلحة الفرنسية.
لكن لا يمكن الحديث عن انتقام في علاقات كهذه، ولا يمكن الحديث عن صفعة. هذه الصفقة ما كانت لتنجح لولا غض الطرف عنها من قبل واشنطن التي لو كانت تريد أن تمنعها لمنعتها، ولكنها غضت الطرف عنها، وكانت بإرادة منها.
وفي المقابل، يرى أومنصور أن اختيار اليونان إمضاء عقد الفرقاطات مع فرنسا هو رسالة مباشرة إلى واشنطن التي تخلّت عن اليونان إبان أزمتها مع تركيا بعكس فرنسا التي ساندتها بقوة.
ورقة ضغط على واشنطن
وخلافا لصفقة الفرقاطات الفرنسية لليونان، يشوب الصفقة محل الخلاف بين الولايات المتحدة والإمارات كثير من التعقيدات نتيجة تغير الإدارة الأميركية.
وقد تعهدت الإدارة الجديدة بقيادة جو بايدن بتشديد الرقابة على مبيعات المقاتلات الفائقة التطور، توجسا من مخاطر تجسس من العملاق الصيني على التكنولوجيا الأميركية الحديثة.
ولدى واشنطن أيضا مخاوف من تجاوزات أمنية وحقوقية من قبل الإمارات والسعودية في حربهما في اليمن، وهو ما عبّر عنه في وقت سابق أعضاء ديمقراطيون في الكونغرس سعوا جاهدين لعرقلة هذه الصفقة.
وفي سياق متصل، ورغم تطبيع الإمارات علاقاتها مع إسرائيل واعترافها بها، فإن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن شدد في تصريحات إعلامية سابقة متعلقة بالقضية نفسها على أهمية "ضمان أن تحافظ إسرائيل على تفوقها التكنولوجي العسكري في الشرق الأوسط".
وعلى خلفية كل هذه "التعقيدات" والضمانات، ندّدت أبو ظبي بالشروط "المرهقة"، وأبلغت واشنطن نيتها التراجع عن صفقة "إف-35".
وفي هذا السياق، قال مسؤول إماراتي في تصريحات سابقة إن "الإمارات العربية المتحدة أبلغت الولايات المتحدة بأنها ستعلّق محادثات الحصول على مقاتلات إف-35″، موضحا أن "متطلبات تقنية، وقيودا تشغيلية سيادية وتحليلات جدوى التكاليف أدت إلى قرار إعادة النظر".
ومن ناحيته، يؤكد الباحث الإستراتيجي بجنيف حسني عبيدي أن تهديد الإمارات بمقاطعة صفقة "إف-35" الأميركية يخدم فرنسا التي لها أن تفخر بأنها شريك أساسي وإستراتيجي وموضع ثقة لدى الإمارات، ولها أن تقول إنها لا تتخلى عن أصدقائها في المنطقة وهي إشارة مباشرة للولايات المتحدة.
ولكنه يستدرك قائلا "في الوقت نفسه يجب ألا ننسى أن كل المنظومة الأمنية لدول الخليج بما فيها الإمارات هي منظومة أميركية وفرنسا تعي هذا جيدا وتعرفه، ومن الصعب عليها تعويض هذا الفراغ. دول الخليج تعرف جيدا أن من الصعب في الوقت الحاضر التخلي عن المظلة الأمنية الأميركية".
ولفت إلى أنه "في ظل بعض الأزمات المتكررة نتيجة تغير الإداراة الأميركية، تحاول بعض الدول الخليجية خاصة الإمارات استعمال علاقتها بدول مثل فرنسا والصين وروسيا كورقة ضغط على واشنطن، ولأنها تعلم أن الرسالة تصل مباشرة وبسرعة إلى واشنطن".
ويشير الخبير في معهد الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية بباريس إلى أن هذه الصفقات لا تعدّ خسارة كبيرة للاقتصاد الأميركي، وذلك بالنظر إلى الأرقام الكبيرة في سوق تصدير السلاح الأميركي التي بلغت سنة 2020 أكثر من 450 مليار دولار، وبنسبة مساهمة في السوق العالمية للسلاح تقدر بـ54%.
وفي الوقت ذاته، يلاحظ أن إبرام صفقات سلاح مع روسيا والصين وفرنسا قد يؤدي على المدى البعيد إلى بعض التوترات مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها.
الصراعات واللاعبون الجدد
ويقول أومنصور إن هناك علاقة تأثير متبادل بين سوق بيع الأسلحة والتوترات الجيوسياسية والتوازنات الإقليمية.
ورغم أن تجارة الأسلحة ليست في الغالب دافعا رئيسيا في التوترات والأزمات الجيوسياسية، فإنها كثيرا ما تسهم في تصعيد الأزمات وتأجيج الصراعات والعكس صحيح، على حد قوله.
ويضيف أومنصور أن تزايد الدول المصنّعة للسلاح يزيد من التوتر في العلاقات بين الدول المصدرة للأسلحة من جانب، وكذلك بين الدول المستوردة لها، ومن ثم تخلق هذه الصفقات تكتلات إقليمية وعلاقات إستراتيجية بين الدول.
ويشدّد عبيدي على أن دخول لاعبين جدد في سوق السلاح العالمية مثل تركيا والبرازيل يزيد من حدّة التنافس، وهذه الدول تعلم أن دخولها إلى سوق السلاح سيزيدها قوة ونفوذا في الساحة الدولية.