نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تحليلًا للكاتب إيشان ثارور، المتخصص في العلاقات الخارجية، خلُص فيه إلى أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية ربما تأذن برحيل ترامب بصفته الشخصية والرئاسية عن سدة الرئاسة الأمريكية، لكنها لن تُسدِل الستار على «الترامبية» التي لم يُكرس ترامب لها، لكنه كان فقط رمزًا لعدد من الأمريكيين الذين صوَّتوا له بأعداد أكثر من الانتخابات السابقة وربما نشهد أكثر من ترامب في السنوات القادمة.
استهل الكاتب مقاله قائلًا: «إن إحدى النتائج الواضحة للانتخابات الأمريكية هي نهاية الوهم الاستثنائي الذي عاشته الولايات المتحدة». وفي عام 2019، ألقى رون تشيرنو، المؤرخ المعروف لشؤون الرئاسة الأمريكية، كلمة الافتتاح في عشاء جمعية مراسلي البيت الأبيض الراقي الذي حضره كثير من رجالات مؤسسات واشنطن الذين كانوا يرتدون الملابس الرسمية ورَبَطات عنق الفراشة (البابيون). ووصف تشيرنو في كلمته الاضطرابات التي شهدتها الولايات المتحدة أثناء ولاية الرئيس ترامب الأولى بأنها «لحظة فوضى»، و«حقبة شاذة في حياة الأمريكيين».
خيانة ترامب لإرث من القيادة الصلبة
وأشار الكاتب إلى أن تشيرنو كان يُردد كثيرًا من العبارات التي يُمكن أن تحفِّز الدعم لمنافس ترامب؛ المرشح الديمقراطي للرئاسة جو بايدن، لا سيما بين مجموعة فرعية صغيرة، ولكنها مؤثرة من حركة جمهورية تُطلق على نفسها اسم «لا لترامب أبدًا – أو Never Trump» وتعيش في عزلة في العاصمة الأمريكية. وهذا اعتقاد منهم بأن الترامبية كانت في الواقع مجرد «استراحة» للولايات المتحدة.
وبحسب هذه الرؤية، وُصفت سياسات ترامب ذات الطابع القومي في الداخل وتبنِّيه نظرية الحمائية (نظرية سياسة اقتصادية لتقييد الواردات من الدول الأخرى بزيادة التعريفات الجمركية على البضائع المستوردة) في الخارج، على أنها «غير أمريكية». وكان يُنظر إلى خطابه الفظ وميوله للتعامل ذاتيًّا مع الوقائع بما يتنافى مع المصلحة والواجب على أنها انحرافات، إذ مثَّلت إدارته الرخوة لأزمة جائحة فيروس كورونا المستجد خيانة لإرث قيادة البيت الأبيض القوية في خضم الأزمات.
بايدن.. عودة روح التوافق
ويرى الكاتب أن بايدن مثَّل، في المقابل، إمكانية استعادة الأعراف المقدسة والعودة إليها وإلى روح الإجماع في السياسة الأمريكية وآدابها. وكان هذا هو المعلن لنا على الأقل. وبحلول منتصف ليل الأربعاء (بدء فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأمريكية)، بدا أن نصف أمريكا تقريبًا لم يكونوا مقتنعين بالنتائج. إذ حصد بايدن أصواتًا أكثر من أي مرشح رئاسي أمريكي في التاريخ وظل المرشح الأوفر حظًا للفوز بالمجمع الانتخابي مع استمرار فرز الأصوات في عدد قليل من الولايات المتصارعة.
بينما فاق ترامب، كما حدث في انتخابات 2016، التوقعات السائدة ومعظم استطلاعات الرأي، لأن عدد أصوات الأمريكيين التي حصل عليها هذا العام أكثر من التي حصل عليها عندما وصل إلى السلطة بوصفه دخيلًا معاديًا للمؤسسة الأمريكية قبل أربع سنوات. وتحطمت – حينئذ – آمال الحزب الديمقراطي في إحكام قبضته على مجلس النواب وتحويل دفَّة الأمور في مجلس الشيوخ لصالحه.
وأدرك المعلقون الأجانب النتائج، فكتب كليمنس ويرجين، كبير المراسلين الأجانب لصحيفة دي فيلت الألمانية قائلًا: «لم يرفض الأمريكيون، كما كان يأمل كثيرون، الترامبية بشدة حتى لو حقَّق بايدن الفوز في الانتخابات الرئاسية في نهاية المطاف».
انتخابات شديدة الاستقطاب
ولفت الكاتب إلى أنه بدلًا عن ذلك، أسفرت انتخابات أمريكا شديدة الاستقطاب عن نتائج تتسم بالاستقطاب. إذ أعلن ترامب قبل الأوان، الذي أرعب عديدًا من الصحافيين السياسيين المخضرمين، فوزه بالانتخابات، في الوقت الذي كان من الواضح تمامًا أنه لم يزل هناك ثمة ملايين من الأصوات يتعين إحصاؤها، وأن ترامب لم يكن يقف على أرض صلبة بشأن حساب الأصوات الانتخابية. وبعد ذلك يوم الأربعاء زعم ترامب وأنصاره أن خصومهم يسرقون الأصوات؛ لأن السلطات الانتخابية في ولايات مختلفة بدأت ببساطة في عدِّ جميع بطاقات الاقتراع.
وفي هذا الصدد كتب دان بالز الصحافي في صحيفة «واشنطن بوست»: «مرة أخرى، أثبت ترامب أنه لا يُعير الدستور أي اهتمام، ولا يكترث باستقرار البلاد ورفاهيتها، أو أي شيء من هذا القبيل. هو لا يهتم سوى بنفسه، وبالاحتفاظ بالسلطات التي بحوزته حاليًا. ولذا فهو يصيح بأن هناك تزويرًا شَابَ عملية التصويت في وقتٍ لا يوجد فيه أي دليل يثبت أن أيًّا من هذا قد حدث».
كما استشهد الكاتب بما كتبته سوزان. بي. جلاسر في مجلة نيويوركر قائلة: «إن تشكيك ترامب المستمر في المؤسسات الأمريكية الرئيسة، وفي النظام الانتخابي الأمريكي أسفر في الوقت الحاضر عن النتيجة التي كان ينشدها، حتى لو لم يظفر بولاية جديدة لمدة أربع سنوات أخرى: فقد أصبحت الولايات المتحدة قوة عظمى ممزقة من الداخل، ولم تعد تثق في ديمقراطيتها».
زعزعة الثقة في أمريكا ونموذجها المثالي
وفي أوروبا أعرب مسؤولون بارزون عن أسفهم بسبب الاضطراب الذي شهدته الانتخابات الأمريكية وحذروا من وضع «متفجر» محتمل. وأصدر مراقبو الانتخابات الأمريكية من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي دعمت واشنطن عملها في مختلف الديمقراطيات الناشئة، بيانًا يُذكِّر السلطات الأمريكية بـ«الالتزام الأساسي» بفرز كل الأصوات.
وأشار مايكل جورج لينك أحد أعضاء بعثة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا قائلًا: «إن المزاعم التي لا أساس لها من وجود مخالفات تنظيمية، لا سيما التي زعمها الرئيس الأمريكي الحالي، بما في ذلك ليلة الانتخابات، تضر بثقة الشعب في المؤسسات الديمقراطية».
واستدرك الكاتب قائلًا: لكن الحقيقة التي لا مفر منها والتي كشفت عنها نتائج الانتخابات أن الترامبية تظل تيارًا قويًّا في السياسة الأمريكية. وتُعد الترامبية أقرب إلى الميول السياسية الموجودة في دول أخرى من العالم والتي يكون فيها رجال المؤسسة العسكرية الأقوياء لديهم ديمقراطيات منتدبة. ومن الواضح أن نزعة الرئيس القومية المراوغة، وحملته الانتخابية المستمرة طيلة كل أعوام مدة ولايته، وتبنِّيه بلا ندم للرسائل والأساليب المثيرة للانقسام، اكتسبت زخمًا ودعمًا هائلًا.
الترامبية لن تذهب إلى مزبلة التاريخ
وفي ذات السياق يشير الكاتب إلى ما كتبته زميلته مونيكا هيس قائلةً: «إن أداء ترامب كان مبالغًا فيه في عدد كبير من إجراءات الاقتراع. ولن يكون هناك فوز في الانتخابات بأغلبية ساحقة، بل سيكون فوزًا بهامش ضئيل في ظل توترات انتظارًا للنتيجة، وربما معارك قضائية. وسواء فاز ترامب أو مُنِيَ بالهزيمة، فإن الترامبية لن تنجرف إلى مزبلة التاريخ، بل ستبقى في كل مكان من أركان المجتمع الأمريكي».
وأشار الكاتب إلى أن الترامبية قد تُحدد بالفعل سياسات جناح اليمين برمته لسنوات قادمة في الولايات المتحدة. وفي إشارة إلى إرث الأرجنتين من القومية الشعبوية، غرَّد دان سلاتر، مدير مركز وايزر للديمقراطيات الناشئة في جامعة ميشيجن، قائلًا: «ربما تصبح الترامبية النسخة الأمريكية من البيرونية (حركة سياسية تستند إلى فكر الرئيس الأرجنتيني السابق خوان دومينجو بيرون وزوجته الثانية إيفا بيرون). حيث شهدت البيرونية حشدًا مكثفًا واستقطابًا هائلًا في أوساط الشعب الأرجنتيني، ولم تكن دائمًا في السلطة لكنها لا تختفي أبدًا».
بالنسبة للمراقبين للموقف الأمريكي في الخارج، ما يحدث حاليًا يمثل دليلًا على التراجع الأمريكي -كما يقول الكاتب.
وتساءل الكاتب ما الذي يعنيه هذا الأمر لدولة ميزتها عقود من الانتقال السلمي للسلطة والحكومات المستقرة – وهو ما أسهم في نشر عديد من أعرافها في دول أخرى- مع مواجهة مثل هذه الأزمة المحتملة حاليًا؟ كتب توم ماك تاج في صحيفة «ذي أتلانتك»: «في ظل حالة الفوضى التي تعيشها واشنطن حاليًا، ومستقبل سيادتها الذي بات غير معروفٍ، تتعرض فكرة أمريكا للغرق، وهي فكرة ترعرع عليها كثير من شعوب العالم ودوله وتبنَّاها بالفعل».
وفي افتتاحيته، قال موقع ستاف، أكبر موقع إخباري في نيوزيلندا، «عندما تحدث بايدن عن أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية بمثابة معركة من أجل استعادة روح الولايات المتحدة، كان يُلْمِح إلى عدم ملائمة ترامب للمنصب، وقد بدا ذلك جليًّا في فشل ترامب في إدارة أزمة فيروس كوفيد-19، بالإضافة إلى إستراتيجية صافرة الكلاب العنصرية، وعدد من الإهانات الأخرى التي وجهها إلى النظام الديمقراطي. ولابد أن يدفعنا استعداد كثير من الناخبين في الولايات المتحدة لقضاء أربع سنوات أخرى من عهد ترامب إلى إعادة التفكير في مُسلَّماتنا».
ترامب سيعود
ونوَّه الكاتب إلى أن موسكو وبكين وطهران استمتعت بمشاهدة حالة عدم اليقين المستمرة بشأن التصويت في الانتخابات الأمريكية، كما كان متوقعًا. وكتب عضو البرلمان الروسي فياتشيسلاف نيكونوف، والذي رحَّب بفوز ترامب في 2016، على صفحته على «فيسبوك» قائلًا: «إن نتيجة الانتخابات الأمريكية هي أسوأ نتيجة شهدتها أمريكا. وأيًّا كان من سيفوز في المعارك القانونية، فلن ينظر إليه نصف الأمريكيون على أنه الرئيس الشرعي للبلاد. هيا بنا نُخزِّن كميات كبيرة من الفشار من أجل المشاهدة».
واستشهد الكاتب في ختام مقاله بما قاله شين تشيانج، نائب مدير مركز الدراسات الأمريكية بجامعة فودان في شنجهاي، متحدثًا إلى صحيفة «جلوبال تايمز» الحكومية الصينية: «إن التربة التي كان بمقدورها أن تنبت مرشحًا رئاسيًّا مثل ترامب لم تزل موجودة في الولايات المتحدة، وبعد أربع سنوات، يستطيع الجمهوريون أن يقدموا مرشحًا آخر شبيهًا بترامب، بل إن الديمقراطيين أنفسهم يمكن أن يكون بينهم ترامب».