قابلت موسكو الضربات الجوية التي قادتها الولايات المتحدة ضد سوريا قبل فجر اليوم السبت 14 أبريل/نيسان بكثيرٍ من الوعيد والخطابات الساخنة، بدايةً بردٍ سريع على نحوٍ غير معهود من الرئيس فلاديمير بوتين الذي أدان الهجوم واتهم الولايات المتحدة بمفاقمة الوضع الإنساني.
لكن بنفس الوقت كان هناك أيضاً شعورٌ واضح بالارتياح. وقالت صحيفةThe New York Timesالأميركية إن الشمس بالكاد قد أشرقت قبل أن تخرج وزارة الخارجية الروسية، التي لا تشتهر بردود فعلها السريعة، ببيانٍ يؤكِّد أنَّ جميع الجنود الروس المرابطين في سوريا الذين تُقدَّر أعدادهم بالآلاف لم يتعرضوا للتهديد من جرَّاء الهجوم الأميركي-البريطاني-الفرنسي، وأنَّ أيَّاً من منظومات دفاعها الجوي لم تُستخدَم.
لن تحدث مواجهة، فالتنسيق قبل وبعد الهجوم مستمر
وقال ألكسندر غولتس، وهو محلل عسكري روسي مستقل ونائب رئيس تحرير مجلة Yezhenedelny Zhurnal الإلكترونية المهتمة بالشؤون الجارية: "يبدو كما لو أنَّ كلا الطرفين كانا يتحركان وفق أدوارهما المحددة، وتمكَّنا من الحد من الأضرار الناتجة عن هذا النوع من المواجهات. لن تكون سوريا نقطة الانطلاق لمواجهةٍ عالمية من نوعٍ ما".
وأصدر السفير الأميركي لدى روسيا جون هانتسمان جونيور بياناً على موقع فيسبوك السبت، يؤكِّد فيه أنَّ الجانبين اتخذا خطواتٍ قبل الهجوم لضمان بقاء كلٍ منهما بعيداً عن طريق الآخر.
وكتب: "قبل أن نتحرَّك، تواصلت الولايات المتحدة الأميركية مع الاتحاد الروسي لتقليص خطر سقوط أي ضحايا روس أو مدنيين".
وبالطبع،يُقرِّب الهجوم الأخير روسيا من الرئيس السوري بشار الأسد أكثر من أي وقتٍ مضى. وأشارت حقيقة عدم وجود رد فعل روسي فوري على تصريحات الرئيس ترمب القاسية تجاه تحالفها هذا مع الأسد إلى أنَّ الكرملين قَبِل الثمن المترتب على ذلك.
وأشار فلاديمير فرولوف، وهو محلل مستقل للشؤون الخارجية وكاتب رأي بموقعRepublic.ruالروسي، إلى أنَّ الأسد أصبح شيئاً يشبه "درعاً بشرياً" يُقلِّص من خيارات روسيا، "لكنَّ ذلك كان خياراً اتخذته موسكو".
وغالباً ما ينتظر الرئيس بوتين لأيامٍ قبل أن يُدلي بدلوه في أزمةٍ دولية، لذا فإنَّ إصدارهبياناً في غضون ساعات من الهجوميُشير إلى أنَّ الكرملين كان يعتبر الأمر موقفاً حرجاً.
دعا بوتين إلى جلسةٍ طارئة لمجلس الأمن لمناقشة الهجوم.
لكن عدا عن ذلك، اقتصر على تكرار الادعاءات الروسية بأنَّه لم يقع أي هجومٍ كيماوي يُبرِّر الهجوم، وأنَّ واشنطن فقط تُفاقم الأزمة الإنسانية.
ومثلما يفعل الأسد، تدين روسيا كافة معارضي الحكومة السورية باعتبارهم "إرهابيين".
لا تقلقوا، لن نتجه لأزمة صواريخ كوبية جديدة
مثَّلت تلك النغمة الأهدأ تغييراً ملحوظاً مقارنةً بالأسابيع الماضية، حين أشار الكثير من المُعلِّقين إلى أنَّ الولايات المتحدة وروسيا كانتا تتجهان ببطءٍ صوب إعادةٍ لأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، التي وضعت غريمي الحرب الباردة على حافة مواجهةٍ نووية. وفي الوقت الذي حاولت فيه بعض المنافذ الإعلامية الروسية تسليط الضوء على أجواء الذعر، فإنَّها قدَّمت أيضاً نصائح عملية من قبيل أي محطات مترو الأنفاق في موسكو هي الأكثر تأميناً ضد هجومٍ نووي، وقدر المياه الذي يجب على الأفراد أخذه معهم إلى ملاجئ القنابل.
وفي الأسابيع التي سبقت الهجوم، أصدرت موسكو تحذيراتٍ متكررة، خصوصاً من الجنرال فاليري غيراسيموف رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، من أنَّ الكرملين "سيتخذ تدابير انتقامية".
وركَّز الجنرال تحذيره على التهديد المهم بأنَّ روسيا ستُهاجم الصواريخ والمنصات التي اُطلِقَت منها في حال تعرَّض أفراد الجيش الروسي للخطر.
وما كاد الهجوم ينتهي حتى أسرعت وزارة الدفاع في إصدار بيانها الذي أكَّدت فيه أنَّ منشأتيها الرئيسيتين في سوريا -القاعدة الجوية في حميميم والقاعدة البحرية في طرطوس- لم تتعرضا للتهديد.
وقال الجنرال سيرغي رودسكوي رئيس إدارة العمليات في هيئة الأركان الروسية في موجزٍ إعلامي أنَّ أيَّاً من صواريخ كروز التي أُطلِقت أثناء الهجوم لم تدخل مناطق الدفاعات الجوية الروسية، وكرَّر التأكيد الروسي على أنَّ الهجوم لا يتعلَّق بالأسلحة الكيماوية.
وقال: "نعتقد أنَّ هذه الضربة ليست رداً على هجومٍ كيماوي مزعوم، بل رد فعل على نجاحات القوات المسلحة السورية في الصراع من أجل تحرير أراضيها من الإرهاب الدولي".
الأهم، أن الأهداف المضروبة بعيدة عن قواعد روسيا
وأشار مُحلل سياسي إلى أنَّ الكرملين لو كان سُرَّ بشيءٍ، فإنَّه سُرَّ نوعاً ما -وإن كان سراً- من أنَّ الولايات المتحدة ضربت أهدافاً بعيدة كل البعد عن مناطق السيطرة الروسية الأساسية. وقال أليكسي ماكاركين من مركز التكنولوجيا السياسية: "لدى روسيا منطقة مصالحها الخاصة في سوريا، والتي تقع على ساحل البحر المتوسط".
وأضاف: "ضربت الولايات المتحدة أهدافاً خارج تلك المنطقة. بالطبع روسيا منزعجة، لكنَّ هذا مجرد عنصر من الحرب الباردة الجديدة، عنصر واحد فقط من عدة عناصر، بما في ذلك العقوبات، التي تُمثِّل مشكلة أكثر خطورة بكثير بالنسبة لروسيا".
وفي علامةٍ دالّة على عدم إلحاحية الوضع المُتعلِّق بسوريا، أصدر المجلس الاتحادي، وهو الغرفة الأعلى في البرلمان الروسي، بياناً يقول فيه إنَّه سيُناقش الضربات الجوية "الأسبوع المقبل".
وبالطبع سيستمر الوعيد في داخل روسيا. وقال غولتس المحلل العسكري: "بالنسبة للجمهور داخل روسيا، ستُغطِّي البيانات القوية على كل شيء"، لافتاً إلى أنَّ قليلين فقط في روسيا سيشكون من أنَّ الكرملين لم يفِ بتهديداته ويهاجم أصول الجيش الأميركي في المنطقة.
مواجهة أميركا في سوريا، مخاطرة لهزيمة مذلة لروسيا
وأشار إلى أنَّه في حين خضع الجيش الروسي لعملية إصلاح شامل في السنوات الأخيرة وطوَّر بعض صواريخ كروز والأسلحة الأخرى عالية التقنية، فإنَّ مواجهةً مباشرة مع القوات الأميركية في سوريا ستخاطر بتعريضه لهزيمةٍ كبيرة مهينة.
وقال مايك بومبيو، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والمرشح لتولي منصب وزير الخارجية، في جلسةٍ لتأكيد تعيينه الأسبوع الماضي في مجلس الشيوخ إنَّ القوات المرتزقة الروسية السرية فَقَدَت بالفعل "بضع مئات" من المقاتلين في اشتباكاتٍ مع القوات الكردية المدعومة أميركياً في فبراير/شباط الماضي. ولم تكن لدى روسيا أي رغبة في مواجهة شبيهة تضم قواتها النظامية. لبوتين هدفان في سوريا.
أولاً، أنَّه يعارض بشدة تغيير النظام الذي ترعاه القوى الخارجية على شاكلة ذلك النوع الذي جلب الفوضى إلى العراق وليبيا.
وثانياً، أنَّه ينظر إلى سوريا كورقة ضغط ليس فقط لاستعادة دور موسكو كوسيط قوة في الشرق الأوسط، بل أيضاً استعادة وضعية شرطي العالم التي كانت تتشاطرها مع الولايات المتحدة زمن الاتحاد السوفييتي. لكن حقيقة أنَّ ترمب بدأ في توجيه الانتقادات له هو وروسيا على نحوٍ أكثر علانيةً لم تنل بعد من تلك الآمال.
وقال فرولوف محلل الشؤون الخارجية إنَّ بوتين سيقبل الضربات المحدودة ضد سوريا التي لا تُشير إلى جهدٍ أميركي مستمر لمساعدة المعارضة، وسيتجنَّب الاشتباك مع ترمب في باقي القضايا.
وأضاف المحلل أيضاً: "لا يزال الكرملين يأمل في عقد قمة مع ترمب، لذا سيتجاهل إلى حدٍ كبير تصريحاته بشأن بوتين. ولا يزال هناك بعض الأمل المتبقي في إمكانية أن يُغيِّر لقاء شخصي جيد مجرى الأمور".
إذن، المواجهة مفتوحة في سوريا
وحتى بعد انتهاء التهديد الحالي بنشوب مواجهة شاملة، أشار عدة محللين روس إلى أنَّ القرب بين الطرفين في سوريا، ناهيك عن المواقف المتغيرة لترمب، تترك مجالاً واسعاً للمواجهة. وقال مكاركين: "الخطر هو أنَّه عند مرحلةٍ ما قد يحدث شيءٌ غير متوقع وعفوي تماماً، كأن يخطئ ضاروخٌ هدفه على سبيل المثال ويصيب هدفاً حساساً".