في ظاهر الأمر، كانت مطالعة هذا الكرنفال الاحتفالي في ذلك المساء أمرًا أكثر من طبيعي. فبعد ليلة سابقة مثيرة ومتلاحقة الأحداث، خضبتها الكثير من الدماء، وحبست أنفاس الجميع بعد ما شهدته من تغيرات درامية وسريعة في موازين القوى، ليلة امتدت من غروب شمس يوم الجمعة الموافق 15 (يوليو/تموز) للعام الماضي 2016 حتى صبيحة اليوم التالي، كان من الطبيعي أن يخرج أنصار الرئيس التركي في المساء للاحتفال بنصر ضخم حققوه في مواجهة انقلاب الساعات الأربع.
وبشكل متوقع، احتشدت جموع المحتفلين ترفرف فوقهم الأعلام التركية، تكسو الأفق بلون أحمر مميز بينما يحملون صور رجب طيب أردوغان، ولكن مع ملاحظة طفيفة عابرة يظهرها القليل من التدقيق: لا تبدو وجوه ذلك المشهد تركية بحال، بل بالكاد يمكن تمييز أحد الأتراك وسط الكثيرين من ذوي الملامح الأفريقية المميزة. وبمزيد من التدقيق نعرف أخيرًا أننا لا نطالع مشهدًا في إسطنبول أو أنقرة أو في أي مدينة تركية على الإطلاق، ولكننا في الحقيقة على بعد أكثر من سبعة آلاف من الكيلومترات، وتحديدًا في "مقديشيو"، عاصمة جمهورية الصومال.
كان تجمع ساحة "دجيركا داهسون" أكثر(1) من احتشاد تقليدي لشباب صومالي متحمس تحركه تلك الصورة الإعلامية لتركيا ورئيسها كـ «قائد إسلامي كاريزمي»، وتخبرنا قائمة حضور كبيرة، تقدمها عمدة "مقديشيو" نفسه ونوابه ومفوضي المناطق والقادة الدينيين الصوماليين الأكثر تأثيرًا، أن الاحتفالية كانت أشبه ما يكون بتجمع عام برعاية شبه رسمية. بدا وأن الصوماليين لم يشعروا بأي تردد في اختيار موقفهم، ولم يقوموا فقط بالتهليل للمنتصر كما جرت العادة في مثل تلك الأحوال، وفي واقع الأمر كانت الصومال أول دولة تدين انقلاب تركيا بشكل علني بعد ساعتين فقط من إعلان وقوعه، حيث أصدر الرئيس الصومالى بيانًا صحفيًا منتصف ليل الجمعة أكد خلاله على تأييده للحكومة المنتخبة ديمقراطيًا برئاسة أردوغان، مشيرًا إلى أنه «من غير المقبول عكس مسار الديمقراطية الذي يتمتع به الشعب التركي».
قبل أقل من خمسة أعوام على ذلك المشهد، وتحديدًا في 19 (أغسطس/آب) عام 2011، هبطت طائرتان في مقديشيو تحملان رئيس الوزراء التركي آنذاك "أردوغان" وزوجته، بصحبة وفد من السياسيين ورجال الأعمال والصحفيين والفنانين، وحتى أحد نجوم تليفزيون الواقع. كانت تلك أول زيارة رسمية لرئيس دولة غير أفريقية إلى الصومال منذ أن تمت الإطاحة بآخر حكومة رسمية هناك عام 1991، حيث حُكمت الصومال على مدار العقدين التاليين من الزمان من قبل حكومات انتقالية هشة، وتطرقت الزيارة للحديث حول تطلع تركيا للمساهمة في تدشين عهد جديد للصومال، مع وعود بمساهمات واستثمارات كبيرة لأنقرة في الدولة الأفريقية الفقيرة.
في ذلك التوقيت، كانت الصومال تستحق عن جدارة لقب "البلد الذي يفر منه الجميع". فعلى مدار عقدين عانت البلاد من حرب أهلية شديدة الوطأة مع نشاط متزايد للقراصنة، ونفوذ متوسع لحركة "شباب المجاهدين" المرتبطة بتنظيم القاعدة على حساب حكومة انتقالية ضعيفة وممزقة وإدارات إقليمية هشة. وبفعل التردي الأمني، وجدت القوى والشركات الغربية نفسها مضطرة لمغادرة سواحل الصومال الإستراتيجية نائية بنفسها عن صراعات أمراء الحرب. وتوجت المآسي الصومالية في نهاية المطاف بموجة جفاف شديدة تركت أكثر من 12 مليون شخص على حافة مجاعة بلغت ذروتها منتصف عام 2011، في نفس توقيت اختيار أردوغان لزيارته غير المسبوقة.
قبل أشهر قليلة من زيارة الرئيس التركي، كان الأتراك قد بدأوا بالتوافد(2) بالفعل إلى مقديشيو وما حولها. وكان نمط التدفق التركي غير معتاد بالنسبة للأفارقة، فبعيدًا عن مشاهد وحدات الأمن وسماسرة الشركات الكبرى المعتاد رؤيتها في أفريقيا، اختارت تركيا أن تدخل القارة السمراء بالمساعدات الإنسانية ومن خلال الجمعيات الإغاثية والتنموية. وفي غضون فترة قصيرة، تحول الهلال الأحمر التركي إلى أحد أبرز مزودي الخدمات في العاصمة الصومالية، بدءًا من تطهير إمدادات المياه، وتخليص الجبال من القمامة، ومرورًا ببناء مدارس جديدة وعيادات صحية مجهزة، وليس انتهاءً بتشييد أماكن إيواء مجهزة للصوماليين المشردين بسبب الصراعات الأهلية والمجاعة.
ومع حلول نهاية عام 2011، كانت الصومال قد حصلت على 49 مليون دولار كتبرعات من الحكومة التركية، وأكثر من 365 مليون دولار من الإسهامات الخيرية للقطاع الخاص التركي. وفي العام التالي 2012 كان أكثر من 1200 طالب صومالي في طريقهم لتركيا للحصول على منح دراسية كاملة، ضمن برنامج تركي هائل للاستثمار في الطلاب الصوماليين.
القوة الخيِّرة
بالنظر إلى المعالم المميزة للسياسة الخارجية التركية منذ صعود أردوغان وحزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، لم تكن المغامرة التركية في الصومال المهمش خطوة تدعو للاستغراب. فعلى مدار أكثر من عقد كامل، استثمرت(3) الدولة التركية في بناء صورتها كـ «وسيط إنساني» في الأزمات الدولية والمناطق المنكوبة. وسرعان ما تحولت هذه الرؤية من مجرد خطة براغماتية إلى ما يشبه عقيدة سياسية للأتراك. ففي (أبريل/نيسان) 2012، وبعد بضعة أشهر فقط من زيارة أردوغان لمقديشيو، كان الرئيس التركي "عبد الله جول" يتحدث أمام جمهور من الضباط في الأكاديمية العسكرية بإسطنبول حول مبدأ الدفاع الجديد التركي المسمى بـ «القوة الفاضلة» ملخصًا بقوله: «قوة فاضلة ذات عقيدة قوية تحاكم جميع خطواتها إلى مبادئ الكرامة الإنسانية والسعادة».
مع امتلاكها لأطول ساحل في أفريقيا، وموقعها في مركز الطرق التجارية الرئيسة، ومع احتياطات نفطية متوقعة في إطار عشرة مليارات برميل في مقاطعة "بونتلاند" في الشمال الشرقي، ومع العديد من الفرص الاستثمارية المتوقعة في قطاعات البنية التحتية المتهالكة، ومع وجود روابط دينية وتاريخية بين تركيا والصومال منذ دخول العثمانيين لمقديشيو في القرن السادس عشر للدفاع عنها ضد الطموحات الإمبراطورية البرتغالية، كان الصومال مكانًا مثاليًا لتركيا، الطامحة للعب دور مؤثر على الطاولة الدولية في عصر الربيع العربي، لممارسة عقيدة "القوة الفاضلة" كما تسميها أنقرة، وأيضًا لمواصلة إستراتيجيتها الأوسع نطاقًا لاختراق الأسواق الناشئة في أفريقيا وتحقيق النفوذ بين حكوماتها، حيث سعت تركيا منذ مطلع الألفية لبناء علاقات صداقة مع الدول الأفريقية، وأطقلت على عام 2005 في تركيا "عام أفريقيا". وفي وقت لاحق كان بمقدور أنقرة الاعتماد على دعم أصدقائها الأفارقة للحصول على مقعد مؤقت في مجلس الأمن عام 2009، وهو مقعد حسمته تركيا بعد أن حصدت أصوات جميع البلدان الأفريقية باستثناء بلد واحد.
ورغم أن تركيا تمتلك اليوم أكبر سفارة أجنبية رسمية في مقديشيو، فقد تولت الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية إدارة الجزء الأكبر من الجهود التركية بالصومال، بمشاركة ودعم من الجهات الحكومية. وتدير وزارة الصحة التركية، بالتنسيق مع الوكالة التركية للتعاون الدولي والتنمية "تيكا"، أكبر مجمع للمستشفيات في الصومال، كما قامت مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية ببناء أكبر دار للأيتام في أفريقيا بمقديشيو، تتسع لـ 1500 طفل وباستثمار بلغ 2.5 مليون دولار. وفي عام 2012 أصبحت(4) الخطوط الجوية التركية الناقل الأول والوحيد المسير لرحلات منتظمة للعاصمة الصومالية خلال أكثر من 20 عامًا. وقبل استئناف خدماتها الجوية لمقديشيو، قامت الحكومة التركية بتأمين مطار العاصمة وتركيب معدات لمراقبة الحركة الجوية. وعلى خلاف المغتربين الآخرين، آثر معظم الأتراك المقيمين في مقديشيو العيش بين الشعب الصومالي، وليس في مجمعات آمنة مسورة، ما أسهم في إكسابهم ثقة كبيرة من قبل الصوماليين.
بيد أن سياسة "القوة الخيِّرة" التركية لم تقتصر على تقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية فحسب، بل امتدت بشكل تقليدي لمحاولات لعب دور سياسي متوافق مع صورة "القوة الفاضلة". ففي عام 2010، وقبل أشهر من زيارة أردوغان الفاصلة التي وقع خلالها 49 اتفاقًا مختلفًا مع الصومال، استضافت(5) إسطنبول مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالصومال، والمثمر عن "إعلان إسطنبول" كخارطة طريق لحل الصراع الصومالي، وأدى ذلك لكتابة دستور الصومال وانتخاب برلمان انتخب بدوره "حسن الشيخ محمود" كأول رئيس غير انتقالي للصومال منذ عام 1991. كما قامت تركيا في عام 2011 بعقد اجتماع طارئ على المستوى الوزاري للجنة التنفيذية لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول لمناقشة الوضع الإنساني المتدهور في الصومال، قبل أن تستضيف مؤتمر إسطنبول الثاني في عام 2012 تحت شعار "إعداد مستقبل الصومال: أهداف عام 2015".
قادت تركيا أيضٍا دفة المحادثات بين حكومتي الصومال وصوماليلاند، وهي جمهورية انفصالية غير معترف بها دوليًا شمال الصومال، للتوصل لاتفاق حول قضايا مثل الأمن والقرصنة والصيد غير القانوني. كما قدمت تركيا 8.84 مليون دولار لإعادة هيكلة الجيش الصومالي وقوة الشرطة، وتدريب الصوماليين في أكاديميات عسكرية في تركيا، ولكن الوجه الناعم لـ "القوة الخيرة" تطلب من تركيا النأي بنفسها عن أي تواجد عسكري مباشر على الأراضي الصومالية من أجل تفادي مداعبة هواجس الصوماليين حول القوى الاستعمارية، ولتمييز نفسها عن السياسات الاستغلالية للقوى الأجنبية التقليدية العاملة في أفريقيا. وحتى حين وقعت تركيا عقدًا لبناء مرفأ تدريب عسكري في الصومال عام 2014، فإن كلا الدولتين حرصتا على الامتناع عن تسمية المرفق التركي الجديد على أنه "قاعدة عسكرية"، مفضلين وصفه على أنه "أكاديمية عسكرية تركية تهدف إلى تركيز الجهود التركية لتدريب القوات الصومالية".
ولكن مع الإعلان عن التدشين الرسمي للمرفأ العسكري التركي، ثم افتتاحه في 30 (سبتمبر/أيلول) المنصرم، بدا أن بعض الأمور آخذة في التغير، وأن تركيا صارت أكثر حرصا(6) على إعلان تواجدها في الصومال، ليس تحت اللافتة الناعمة لـ "تركيا الخيرة" فقط وإنما بإظهار لمحات أكثر صلابة. وكان الرئيس الصومالي الجديد محمد عبد الله فارماجو بنفسه هو من زف بشرى قرب افتتاح قاعدة تركية في بلاده وذلك في تغريدة له بـ(أغسطس/آب) الماضي على موقع تويتر.
وذكر(7) فراماجو أن القاعدة، المشيدة بناء على اتفاق ثنائي سابق بين البلدين، ستساعد فى تعزيز جهود تشكيل جيش صومالي أكثر قوة. كان من الواضح أن أنقرة بدأت بالشعور بالقلق حول أصولها الإستراتيجية في الصومال والقرن الأفريقي، في ظل توسع عسكري واقتصادي سريع ومطرد خلال العامين الأخيرين للإمارات العربية المتحدة، من يعرف الجميع اليوم أنها لا تُكن كثيرًا من الود لأنقرة، في حين لا يجد سفيرها في واشنطن "يوسف العتيبة" غضاضة في ممارسة "الوشاية السياسية" بالحكومة التركية، فضلًا عن الاعتراف في محادثاته الخاصة المسربة أن بلاده لا ترغب في ترك تركيا لإعداد "قائمة عشاء" حتى فضلًا عن تركها تلعب دورًا مؤثرًا في القضايا الإقليمية.
جنون العسكرة
ترتبط الإمارات بدورها بالصومال بعلاقات يعود تاريخها لأواخر الستينيات، قبيل الاستقلال الرسمي للدولة الإماراتية، حيث كان البلدان معًا ضمن مصاف الدول المؤسسة لمنظمة التعاون الإسلامي عام 1969. وفي أعقاب الحرب الأهلية الصومالية مطلع التسعينيات، حافظت الإمارات على علاقاتها مع الحكومات الانتقالية الصومالية، وعززت هذه العلاقات من خلال نشاطها في مجال المساعدات الإنسانية، وإن ظلت أقل حضورًا على المستوى الدبلوماسي، حيث كانت المصالح الإماراتية بالصومال مرتكزة على ضمان المرور الآمن لسفن النفط على سواحل القرن الأفريقي وفي مضيق باب المندب، ومواجهة عمليات القرصنة البحرية، إضافة لتعزيز السياسة التقليدية لمؤسس البلاد الشيخ "زايد آل نهيان"، العامد وقتها لبناء سمعة حسنة لبلاده، بالعالم الإسلامي على وجه الخصوص، من خلال المساعدات الإنسانية.
حرصت الإمارات على الحفاظ على علاقات مستقرة مع الحكومات الصومالية المتعاقبة، وواصلت ممارسة سياسة "دبلوماسية المساعدات" ممثلة للسمة الأبرز للعلاقات بين البلدين. وبلغ(8) إجمالي المساعدات الإنسانية الإماراتية للصومال منذ بدء المجاعة حوالي 40 مليون دولار، تنوعت بين مساعدات تموينية وإغاثية تم تقديم معظمها من خلال الهلال الأحمر الإماراتي ومؤسسة "خليفة بن زايد". وقبل ذلك، شاركت الإمارات في تدشين مجموعة متنوعة من المشاريع الصحية والإسكانية والتعليمية بالصومال، حيث تدير مؤسستا "الريان" و"أبجد" الإماراتيتان ما لا يقل عن سبع مدارس هناك بقوة خمسة آلاف طالب على الأقل. ومن ناحية أخرى تعتبر(9) الإمارات شريك الصومال التجاري الأول بنسبة 44% من الواردات الصومالية معظمها من المنتجات البترولية، كما تعد الجالية الصومالية إحدى أكبر الجاليات الأجنبية المقيمة بالإمارات، بتعداد يبلغ حوالي مائة ألف صومالي يحولون ما يقرب من 1.5 مليار دولار سنويًا.
ولكن مصلحة الإمارات في مواجهة موجات القرصنة بخليج عدن، خاصة في ظل ضعف سيطرة الحكومات الصومالية المتعاقبة، قد صبغ دبلوماسية التنمية الإماراتية بمسحة أمنية عسكرية في أوقات كثيرة. على سبيل المثال، أهدت أبو ظبي الصومال في الثمانينيات مجموعة من المعدات العسكرية، من بينها 12 مروحية حربية بريطانية الصنع، قبل أن تتوسع العلاقات الأمنية في الأعوام الأخيرة وصولًا لتوقيع البلدين مذكرة تفاهم للتعاون في المجال العسكري عام 2014، قامت الإمارات بموجبها بالمشاركة في تدريب قوات الحرس الرئاسي الصومالي في معسكرات بها قبيل إعادتهم.
وفي أعقاب التدخل العسكري السعودي الإماراتي في اليمن، وتزايد الأصول العسكرية الإماراتية في القرن الأفريقي، وسعت الإمارات شراكتها العسكرية مع الصومال، في البداية عبر توسيع برنامج التدريب ليشمل وحدة مكافحة الإرهاب وجهاز الأمن والمخابرات، قبل أن تؤسس أبو ظبي مركز تدريب خاص للقوات الصومالية في مقديشيو، وتتوسع بشكل ملحوظ في تسليح المقاطعات الصومالية، فقامت مثلًا بتسليح مقاطعة "كيسمايو" بمركبات مقاومة للألغام وناقلات جند مدرعة ودراجات نارية لشرطتها المحلية، كما قامت بتسليح الشرطة البحرية في "بونتلاند" بمروحيات وطائرات هليكوبتر لمكافحة عمليات القرصنة، فضلًا عن تعهدها بدفع رواتب قوات الأمن الصومالية لمدة أربع سنوات.
ومع مرور الوقت أصبح من الواضح أن الإمارات تحول أصولها في منطقة القرن الأفريقي من قوة ناعمة لقوة صلبة، بعد أن تولت إدارة الأمور في عدن بعد مشاركتها في حرب اليمن، قبل أن تتخذ خطوة أكبر نحو عسكرة وجودها في القرن الأفريقي، عبر تأسيس(10) أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في ميناء "عصب" على سواحل إريتريا أواخر عام 2016. ولم تكن الأمور تتطلب سوى المزيد من الوقت لتوسع الإمارات تواجدها العسكري في الصومال بشكل أكبر، بعد أن وقعت شركة مواني دبي العالمية اتفاقًا مع مقاطعة صوماليلاند، تدير بموجبه الشركة الميناء لمدة 30 عامًا مقابل 442 مليون دولار، قبل أن يتم توقيع اتفاق جديد يسمح بإقامة قاعدة عسكرية في الميناء.
كان من الطبيعي أن يثير الاتفاق بين الإمارات والمقاطعة الشمالية اعتراضات(11) الحكومة الفيدرالية في مقديشيو بقيادة الرئيس المنتخب حديثًا فرماجو، بسبب قيام أبو ظبي بالتوقيع على اتفاق أحادي الجانب مع مقاطعة انفصالية دون الرجوع للحكومة الفيدرالية، خاصة مع ورود تقارير(12) تشير أن أبو ظبي قامت بدفع رشاوي ضخمة للسياسيين والوجهاء في أرض الصومال من أجل تمرير الاتفاق المثير للجدل، بهدف تحويل الميناء لقاعدة لدعم وجودها في منطقة القرن الأفريقي. بيد أن الاتفاق الإماراتي الجديد لم يثر فقط مخاوف الحكومة الجديدة في الصومال ولكنه استفز أنقرة أيضًا، وكان من الواضح أن التعزيز العسكري الإماراتي في الصومال يأتي بشكل رئيس في مواجهة الحضور المتنامي لتركيا في البلاد، حضور صارت أبو ظبي تنظر إليه كتهديد لمصالحها المتوسعة في المنطقة، ولخطتها البحرية الهادفة لإحكام السيطرة على مضيق باب المندب وموانئ القرن الأفريقي.
الحرب
بدأ التنافس التركي الإماراتي الناشئ حول الصومال في الازدياد بقوة خلال الأشهر الأخيرة، لدرجة حضوره(13) في القلب من انتخابات الصومال الرئاسية أواخر العام الماضي. واستثمرت أبو ظبي بشدة في عدد من المقربين منها، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق "حسن شيخ محمود" الذي سهل بشكل ما سيطرة الإمارات على الموانئ الصومالية، كما استثمرت في مرشحين آخرين على رأسهم رئيس الوزراء الصومالي السابق "عمر عبد الرشيد شارمارك" المقرب من الإمارة.
فاز عبد الله فارماجو في النهاية بالرئاسة على غير رغبة الإماراتيين، وبدا أن الرئيس الجديد يحمل حساسية أكثر من سلفه تجاه سعي بعض القوى الأجنبية لإضعاف الحكومة الفيدرالية من خلال إبرام اتفاقات خاصة مع الحكومات الإقليمية. ورغم أن الرئيس الصومالي الجديد اختار الرياض كمحطة أولى لزيارته الخارجية بعد انتخابه، فإنه طلب(14) من الرياض الضغط على أبو ظبي لوقف بناء القاعدة العسكرية ببلاده.
ورغم معارضة الحكومة الصومالية، بدا أن أبو ظبي ماضية في سياستها التوسعية، خاصة بعد أن قامت مواني دبي بتوقيع عقد جديد مع منطقة بونتلاند، أي أرض النبط، شبه المستقلة شمال شرقي الصومال، تدير بموجبه الشركة الإماراتية ميناء "بوصاصو"، مع الحديث عن تواجد عسكري محتمل في الميناء. وفيما يبدو أن التحركات الإماراتية السريعة لتعزيز أصولها الصلبة في الصومال قد نجحت في رفع مستوى القلق لدي أنقرة لحده الأقصى ما دفعها لتسريع وتطوير وتيرة البناء في منشأة التدريب العسكرية المعلن عنها قبل عامين والتي افتتحت بالفعل. وعلى خلاف القواعد العسكرية الإماراتية، ستخصص القاعدة التركية لتدريب الجنود الصوماليين، حيث سيقوم 200 خبير تركي بتدريب ما يصل لـ 10 آلاف من أفراد الجيش الصومالي، في غياب أي خطط لنشر وحدات تركية قادرة على القيام بعملياتٍ عسكرية. وفيما يبدو فإن أنقرة قررت تعزيز تواجدها في فضاء تدريب وتشكيل القوات الأمنية الصومالية، بعد أن سيطرت الإمارات على هذا الفضاء بشكل ملحوظ في الأعوام الماضية.
يتوسع(15) نطاق المنافسة التركية الإماراتية في الصومال من الأمن والسياسة إلى الاقتصاد والتجارة، ففي حين تدير شركة البيرق التركية ميناء مقديشو، وقدمت الشركات التركية عطاءاتٍ للقيام بنفس الشيء في مدينة كيسمايو على الساحل الجنوبي، فإن شركة "إس كيه إيه" الإماراتية للطيران والخدمات اللوجستية تدير مطار مقديشو، في حين تنافس الشركات الإماراتية على عقود تطوير الميناء والمطار في كيسمايو، وستدير مواني دبي بالفعل كل من ميناء بربرة وميناء بوصاصو بعقود طويلة الأجل تم توقيعها مؤخرًا على الرغم من اعتراض الحكومة الفيدرالية.
أجبر الانتقال الإماراتي السريع من عصر القوة الناعمة لعصر القوة الصلبة أنقرة على اتخاذ خطوات مماثلة وإن كانت أكثر حذرًا. ويمكن لنشر القوة العسكرية أن يلعب دورًا في تأمين المصالح الإستراتيجية مع الحكومات المختلفة، ولكنه يظل حاملًا في طياته المخاطرة بإثارة غضب الشعوب، لذا بدت أنقرة حريصة من البداية على رسم حدود «دبلوماسيتها الخيرة» كما تسميها لتمييز نفسها عن الصورة النمطية للقوى الأجنبية.
على الجانب الآخر لا تحمل سياسة أبو ظبي نفس القيود، وهي وإن كانت قد بدأت من خلال القوة الناعمة، ولا تزال تحافظ على الكثير من مقوماتها للآن، فإنها لا تعير الكثير من الانتباه للمصالح الصلبة، لذا وباستثناء الفعاليات البروتوكولية التقليدية فإن ولي عهد أبو ظبي "محمد بن زايد" لا يأمل يومًا على ما يبدو أن يرى صوره مرفوعة أعلى رؤوس الأفارقة السمر في شوارع مقديشيو، ويبدو أنه لا يعبأ كثيرًا بذلك طالما بقي قادرًا على إخضاع الجميع، يستوي أن يكون ذلك بإغراء المال أو بأصوات البنادق.