من يسكنون قصور الحكم يتمتعون بالرصانة والحكمة، ومن يعملون بالسياسة والدبلوماسية يزنون كلماتهم بماء الذهب، وحتى إذا اضطروا إلى فاحش القول أو سخيفه فهم يتركون ذلك إلى أتباع أو ذيول يراوحون بين تلميحات وتسريبات وحتى إساءات يكون مجالها الغالب هو الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
هذا هو ما تظنه أغلب الشعوب بحكامها، أو قل ما تتمناه، لكن هل يؤيد الواقع ذلك؟
لعلك ستظن أني سأعود بك إلى سبعينيات القرن الماضي، وأحكي لك عن تلاسن بين رئيس أوغندا عيدي أمين ونظيره التنزاني جوليوس نيريري، أو أننا سنعود قليلا لنتذكر الزعيم الليبي معمر القذافي وخروج عن النص كان يصادف الحقيقة أحيانا، وربما تظن أن المقصود هنا زعماء عرب لم يجد بعضهم مشكلة في وصف المعارضين أو الشعوب أو الأشقاء بما يسيء.
في الحقيقة لا هذا ولا ذاك؛ فالأضواء خطفها نجوم جدد انقلبوا على الثوابت وأثاروا الضجيج، حيث استقبلت ساحة الشتم والسب نجمين فوق العادة، أحدهما برتبة رئيس أكبر دولة في العالم، والآخر هو زعيم أكثر الدول تهديدا لأكبر دولة في العالم!
ربما يكون الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد فاجأك منذ قدومه إلى السلطة بداية العام الجاري بأنه يترك أحيانا مسؤوليه الرسميين في واد ويخرج ليغرّد على تويتر في واد آخر؟ لا بأس، هذا ليس كل شيء، فالرئيس الكبير لم يعد يغرد بمواقف سياسية فقط، وإنما بات يغرد شاتما ويصف الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون بأنه "مجنون لا يخشى تجويع شعبه وقتله".
لم تكن الصورة الذهنية للدول العظمى وقادتها تسمح للمتابع بتصور مثل ذلك، فقد حفظت الآذان والعيون تلك المفردات والعبارات المعتادة في الأزمات الدولية، من إدانة واستنكار وشجب وتنديد، إلى مطالبات بضبط النفس، أو دعوات لممارسة الضغوط، أو حتى فرض العقوبات.
ساحة الشتم
لكن السباب وتبادل الشتائم لم يعودا متروكين لصغار المسؤولين أو المناصرين في الإعلام؛ فالجديد الذي قدمه ترمب وكيم في الجولة الجديدة من الأزمة الكورية القديمة هو أنهما اقتحما بنفسيهما ساحة الاتهام بل والشتم، ليزيدا حدة الصراع بين قوة عظمى ترفض أن يتحداها "الصغار"، ودولة متحفزة ترى أن من حقها أن تمتلك من القوة ما يمكنها من ردع "الكبار".
فقد استغل الرئيس الأميركي ظهوره الأول أمام الأمم المتحدة ليكشر عن أنيابه تجاه كوريا الشمالية وزعيمها، حيث وصف نظامها بالفاسد والشرير، وتعهد "بتدميرها بالكامل" إذا هاجمت أميركا أو حلفاءها، كما هاجم كيم وقال إنه "انطلق في "مهمة انتحارية له ولنظامه"، قبل أن يذهب إلى حد السخرية منه بـ"رجل الصواريخ الصغير".
لم يكتف ترمب بالخطاب الأممي، ولم يطق صبرا عن تويتر، فهرع إليه مغردا ليصف الزعيم الكوري بأنه "مجنون لا يخشى تجويع شعبه وقتله".
وكأنّ كيم آثر في البداية أن يترك الرد لوزير خارجيته ري يونغ الذي لم يقصّر، فوصف خطاب ترمب بأنه "نباح كلب"، كما وصف ترمب نفسه بأنه ملك الكذب، وأنه رجل عصابات مصاب بجنوب العظمة، وأنه "رئيس شر يحمل الزر النووي".
ولكن يبدو أن الزعيم الكوري الشمالي لم يطق صبرا على المنازلة بنفسه، فوصف غريمه بأنه "أميركي عجوز مجنون"، مهددا بأنه سيلقن "هذا المختل عقليا درسا بالنار"، مؤكدا أن وصول الصواريخ الكورية إلى البر الأميركي بات أمرا حتميا بعد تهديدات ترمب.
لم يعد كيم وحده هو المجنون إذن وفق ما اعتاد الإعلام الغربي على وصفه في السابق، فرئيس أكبر دولة في العالم هو أيضا كذلك حسب وصف زعيم دولة لا يستهان بها على صعيد القدرات العسكرية عالميا.
أي مستقبل؟
أين يذهب العالم إذن، خاصة إذا كانت هناك دول ستكتوي حتما بنصيب وافر من نار المواجهة إن حدثت، وفي مقدمتها كوريا الجنوبية واليابان؟ وأي مستقبل يتوقع في ظل هذا الجنون والاتهامات المتبادلة به؟
لعل هذه الأسئلة كانت حاضرة لدى دول كبرى أظهرت انزعاجها لهذه اللهجة وتلك التهديدات، حيث نددت روسيا "بتبادل التصريحات الفظة واللهجة العدائية"، وعبرت عن قلقها للتصعيد، وكذلك فعلت الصين التي قالت إن التهديدات بالقول أو بالفعل لن تساعد في حل الأزمة.
vakhtart ألمانيا أن تكون صريحة مع حليفتها الولايات المتحدة، حيث قالت زعيمتها أنجيلا ميركل إن التهديد بتدمير كوريا الشمالية كان خطأ، وأكدت أنها أبلغت ترمب في اتصال هاتفي بضرورة التوصل إلى حد دبلوماسي.
أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فقال إن معالجة الأزمة تحتاج إلى حنكة سياسية قبل أن ينفذ إلى الجوهر مباشرة، داعيا ترمب وكيم إلى "التركيز على الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة في شبه الجزيرة الكورية، بدل الخطابة".