[ الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي مع رئيس كوبا السابق فيدل كاسترو في العاصمة الكوبية هافانا في زيارة رسمية / سبتمبر 2000 ]
تأتي الجولة المكوكية لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أمريكا اللاتينية صباح اليوم الأحد في إطار مساعي طهران لتوطيد علاقاتها الخارجية بعيدًا عن التوتر المشوب بالحذر من دول الجوار، لتثير الكثير من التساؤلات حول توقيت هذه الزيارة والأهداف - المعلنة والخفية - من ورائها.
الجولة الصاروخية الخماسية التي تشمل كل من نيكاراجوا والإكوادور وتشيلي وبوليفيا وفنزويلا، تأتي في الوقت الذي تعاني فيه طهران من ضغوط اقتصادية حادة جراء الإنفاق المتزايد على المعارك الميدانية في كل من اليمن وسوريا، إضافة إلى زيادة النشاط الدبلوماسي الخليجي في الدول اللاتينية في الآونة الأخيرة.
"نون بوست" في هذا التحليل ومن خلال قراءة ملامح الوجود الإيراني في الدول اللاتينية يسعى للإجابة عن السؤال التالي: ما الأهداف الحقيقية لزيارة وزير الخارجية الإيراني في هذا التوقيت بالذات؟ وما الآثار المترتبة على هذه الزيارة فيما يتعلق بالنفوذ الخليجي والهيمنة الأمريكية في هذه الدول؟
العلاقات الإيرانية اللاتينية
بالرغم من التباعد الجغرافي بينهما، إلا أن العلاقات الإيرانية اللاتينية فرضت نفسها على خارطة التحالفات الدولية كواحدة من أفضل العلاقات التي تحدت فرق الأميال والمسافات بقوتها وتعاونها المثمر في مختلف المجالات.
وتمثل المرحلة التاريخية من 2005- 2012 وهي فترة الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد، أفضل المراحل التي شهدت نموًا وازدهارًا للعلاقات بين الجانبين، حيث استفاد نجاد من علاقاته الشخصية بعدد من قيادات دول أمريكا اللاتينية في مقدمتهم الزعيم الفنزويلي الراحل، هوجو شافيز، في تفعيل أواصر التعاون بين الجانبين، وهو ما تجسد في قيامه بـ "7" جولات رسمية لدول أمريكا اللاتينية في 7 سنوات بمعدل زيارة واحدة كل عام.
بالرغم من التباعد الجغرافي بينهما، إلا أن العلاقات الإيرانية اللاتينية فرضت نفسها على خارطة التحالفات الدولية كواحدة من أفضل العلاقات الإيجابية
ففي البرازيل، وصلت العلاقات مع إيران إلى آفاق كبيرة من التعاون الاقتصادي والسياسي، تجسد في دعم البرازيل للمفاوضات النووية التي أجرتها إيران مع الدول العظمى في 2010، حيث لعبت دور الوسيط بجانب بعض الدول الأخرى في التواصل لهذا الاتفاق التاريخي الذي كسرت من خلاله طهران عزلتها الدولية.
وفي فنزويلا، فقد تعهدت الحكومات المتعاقبة في البلاد على دعم إيران في مختلف توجهاتها الخارجية، وهو ما عبر عنه الرئيس الراحل هوجو شافيز، في أكثر من موقف بشأن دعم بلاده لإيران في مواجهة أعدائها، وهو ما أستفز الولايات المتحدة كما سيتم ذكره لاحقًا.
ومؤخرًا التقى النائب الأول للرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، الزعيم الفنزويلي الحالي نيكولاس مادورو، وكما فعل كثير من الزعماء الإيرانيين من قبله خلال زياراتهم التي قاموا بها إلى أمريكا اللاتينية، وصف جهانغيري العلاقات الإيرانية - الفنزويلية بأنها "أساسية"، وأكد استعداد إيران الدائم لتوسيع الروابط بين البلدين على المستويات كافة، وقال السفير الفنزويلي في طهران لوكالة أنباء فارس الشهر الماضي إن فنزويلا مستعدة لأن تصبح محورًا للصادرات الإيرانية إلى دول أمريكا اللاتينية الأخرى.
وفي كوبا، فقد جمع العداء لأمريكا الحليفين الإيراني والكوبي على مائدة واحدة، وهو ما عبر عنه الزعيم الكوبي السابق فيدل كاسترو خلال لقائه بالمرشد الأعلى الإيراني، على خامنئي، على هامش زيارته لإيران في 2001: إن إيران وكوبا، بالتعاون فيما بينهما، تستطيعان تركيع أمريكا، ورد عليه المرشد حينها: إن الولايات المتحدة ضعيفة وهشة للغاية، في يومنا هذا يمكن تحطيم الجبروت الأمريكي.
النشاط الإيراني في أمريكا اللاتينية
بعيدًا عن التعاون الاقتصادي والتجاري، فقد كشفت بعض التقارير الأمنية فضلاً عن تحليلات عدد من السياسيين والمقربين من دوائر صنع القرار الأمريكي عن نشاط استخباراتي في لباس دبلوماسي تقوم به طهران في بعض دول أمريكا اللاتينية، وبصرف النظر عن مدى صحة هذه التقارير والتي تعكس في المقام الأول القلق الأمريكي من النفوذ الإيراني في القارة الجنوبية، إلا أن كثيرًا مما ورد بها ترجحه المواقف والأحداث التاريخية.
إيليم بوبليتيه، المدير السابق لمكتب لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، في تحليل نشرته مجلة "ناشيونال إنترست" أشارت إلى أن النظام الإيراني منذ بداية الثورة الإسلامية يسعى إلى "تصدير" أيديولوجيته الراديكالية باستخدام كل الوسائل الضرورية، مشيرة إلى أن تواصل الكيانات المدعومة من إيران، مثل "بيت أمريكا اللاتينية في إيران"، ترعرعها في المنطقة بهدف ظاهره حميد، وهو تعزيز العلاقات بين الشعب الإيراني وشعوب أمريكا اللاتيني"، غير أن هدفها الحقيقي يبدو أنه الإضرار بمصالح الولايات المتحدة، علمًا بأن "بيت أمريكا اللاتينية في إيران" قد استضاف مؤخرًا رئيس نيكاراجوا دانيال أورتيجا، كما أعلن أخيرًا عن نيته نشر خلاصة لمقالات ورسائل الرئيس الكوبي السابق، فيدل كاسترو، بالإضافة إلى كتاب حول كوبا والشؤون الدولية بالتزامن مع حملة التضامن بين إيران وكوبا.
الكونجرس الأمريكي أيضًا قدم توثيقًا رسميًا لعدة مجهودات إيرانية ممنهجة طيلة العقود الماضية تستهدف زرع عدد من العملاء السريين من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية، والحرس الثوري، وفيلق القدس، داخل المنشآت الدبلوماسية الإيرانية بهذه الدول، فضلاً عن المؤسسات التعليمية، والدينية، والثقافية، والاقتصادية، متهمة هذه الخلايا المزروعة بالتورط في بعض العمليات الإرهابية التي جرت مؤخرًا في فنزويلا والأرجنتين.
وفي سياق آخر فهناك حالة تناقض واضح في توصيف النفوذ الإيراني داخل أمريكا اللاتينية، ما بين السيطرة الكاملة والتراجع الشديد، وهو ما كشف عنه تقرير للخارجية الأمريكية في 2013 والذي أكد أن هناك حالة من التراجع الواضح في النفوذ الإيراني داخل دول القارة الجنوبية، وهو ما قوبل بحملة من الانتقادات من بعض أعضاء الكونجرس ممن حذروا من تكرار واشنطن لنفس الأخطاء المتكررة بشأن التهاون في الدور الإيراني والروسي داخل أمريكا اللاتينية، بما يحمل من مؤشرات خطيرة وتهديد لمستقبل الولايات المتحدة.
زيارة ظريف: لماذا؟
تعد زيارة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف لخمس دول لاتينية برفقة ما يقرب من 60 رجل أعمال هي الأكبر من حيث الحجم خلال السنوات الأخيرة، لاسيما وأنها تأتي في وقت تتعرض فيه طهران لهزة اقتصادية عنيفة جراء الإنفاق المتزايد على المعارك الميدانية في اليمن وسوريا، فضلاً عن المقاطعة الخليجية والضغوط الدولية، وهو ما يجعل من البحث عن فرص استثمارية جديدة لتعويض ما تكبدته من خسائر أمر غاية في الأهمية.
العديد من الخبراء أكدوا أن تحركات إيران وذراعها المسلح"حزب الله" بحرية كاملة في دول فنزويلا، والمكسيك، ونيكاراغوا، وتشيلي، وكولومبيا، وبوليفيا، والإكوادور، وبالأخص في منطقة المثلث الحدودي بين باراغواي والأرجنتين والبرازيل لم تأت من فراغ، ولم يكن البعد الاقتصادي فقط هو الهدف الوحيد، بل هناك عدة محاور استراتيجية سعت طهران لتحقيقها من وراء تفعيل سبل تقوية العلاقات مع أمريكا اللاتينية.
سياسيًا، تسعى طهران من خلال علاقاتها الخارجية مع دول أمريكا اللاتينية المناهضة للنظام الأمريكي، إلى كسر الهيمنة الأمريكية وتكوين تحالف سياسي قوي قادر على مواجهة التهديدات الأمريكية في القارة الجنوبية ومنطقة الشرق الأوسط.
أمريكا التي فشلت في عزل إيران دوليًا بالرغم من الحصار الاقتصادي المفروض عليها من قبل، أيضًا فشلت في كسر شوكة الراحل هوجز شافيز، ومن ثم فمساعي طهران تستهدف في مقام هام وخطير مناهضة الهيمنة الأمريكية، ومن الملفت أيضًا أن العلاقات الإيرانية مع دول أمريكا اللاتينية لا تقتصر على الدول المناوئة لواشنطن فقط، فالبرازيل دولة لها صداقات قوية مع أمريكا لكنها في الوقت ذاته قادرة على اتخاذ مواقف قد لا ترضى عنها واشنطن، بما يعني أن العقد الأمريكي في الهيمنة على دول القارة الجنوبية بدأ ينفرط بصورة ملحوظة، وهذا ما عبر عنه الاتفاق النووي الثلاثي، وخصوصًا أن الإعلان عنه كان لمصلحة إيران على عكس ما كانت تريده الولايات المتحدة، إضافة إلى أن المواقف التي اتخذتها الدول اللاتينية تضامنًا مع إيران والحق العربي عبرت عن حقيقة ما تمثله هذه الدول على خارطة المواجهة مع أمريكا.
كما رأى متابعو نون بوست أن الزيارة ليس لها ذلك الأثر وان إيران لا تعادي الولايات المتحدة من الأساس، إلا أنها تحمل الكثير من الدلالات والأبعاد الاخرى، وهو ماستكشف عنه الأيام المقبلة،
ثقافيًا، فهناك من يرى أن هذه التحركات تأتي في سياق سعي النظام الإيراني منذ بداية الثورة الإسلامية إلى تصدير أيديولوجيته الراديكالية باستخدام كل الوسائل الضرورية، وهو ما يعني تعزيز العلاقات بين الشعب الإيراني وشعوب أمريكا اللاتينية.
عقديًا، البعض يرى أن التواجد الإيراني المكثف داخل الأوساط الثقافية والشعبية بدول أمريكا اللاتينية يهدف إلى تعزيز الأواصر مع الجالية العربية الشيعية اللبنانية تحديدًا، والمقيمة في دول أمريكا اللاتينية، عبر إقامة علاقات اقتصادية وطيدة معها خاصة أنها تتمتع بنفوذ اقتصادي كبير، ونشاط حركة التجارة فيها.
وفي المقابل فقد تسبب زيادة النفوذ الإيراني في أمريكا اللاتينية في إثارة قلق الديوان الملكي السعودي، وهو ما عبر عنه عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، بقوله أن دول أمريكا الجنوبية دائمًا ما كانت تؤيد القضايا العربية، مشيرًا إلى أن إيران تسعى لإقامة علاقات مع هذه الدول لضعف موقفها الدولي، لأنه لا يوجد لديها أصدقاء عديدون من دول العالم.
الجبير قلل من تأثير العلاقات الإيرانية اللاتينية، بقوله أن تقارب الدول العربية مع دول أمريكا الجنوبية سيزيد من عزلة إيران في العالم، وأن طهران باتت "ضعيفة" و"لا يوجد لديها أصدقاء، وهي تسعى لكسب الود من أي دولة كانت".
تصريحات الخارجية السعودية تعكس حالة القلق والتوتر، بما يعني جولة جديدة تنتوي الرياض القيام بها لمناهضة النفوذ الإيراني في القارة البعيدة نسبيًا عن أعين وأيدي السعوديين، فهل تنجح السعودية في تطويق الدور الإيراني في أمريكا اللاتينية بمساعدة واشنطن كما فعلت في إفريقيا أم تنجح طهران في تكوين جبهة جديدة تعوض من خلالها خسارتها الاقتصادية، وتكسر بها شوكة الهيمنة الأمريكية في ظل الدعم الروسي الخفي لدورها داخل دور القارة؟