لم يتردد نصر الله هذه المرة، إذ أعلنها بالفم الملآن في خطابه الجمعة: «موازنة حزب الله ومصاريفه من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولا أحد له علاقة بهذا الموضوع، ومالنا المقرر لنا يصل إلينا».
هل يمكن لحزب يشارك في البرلمان والحكومة في أي بلد ذي سيادة على وجه الأرض أن يعلن أنه يتلقى موازنته من بلد آخر يمثل كيانا معاديا لجزء معتبر من الشعب، وينتمي لفضاء عرقي وديني مختلف بالنسبة لجزء آخر يمثل النصف بحسابات «السياسة»، وإن كان أقل من ذلك بحسابات الديموغرافيا، أعني المسيحيين؟! يحدث ذلك فقط في لبنان، ويُفرض هذا المنطق بقوة السلاح.
لا يتوقف الأمر عند هذا. هل يوجد حزب في أي بلد على وجه الأرض (يشارك في الحكومة والبرلمان)، يعلن زعيمه بكل صراحة ووضوح أنه أرسل أبناء الحزب الذين هم أبناء البلد إلى دول أخرى من أجل القتال لصالح فئات معينة؟! يحدث ذلك فقط في لبنان، ويُفرض هذا المنطق بقوة السلاح أيضا.
في الخطاب، أعلن نصر الله ما سلف حول الموازنة، ثم أعلن أنه أرسل مقاتليه إلى العراق، وقبل ذلك بالطبع إلى سوريا (لا تنسوا ما كُشف عن اليمن أيضا)، وكل ذلك بدعوى مصلحة لبنان!!
كيف لحزب يشارك في برلمان وحكومة أن يقرر حروبه بيده دون الرجوع إليهما؟! حزب الله يفرض ذلك بقوة
السلاح أيضا!!
في حيثيات خطاب الجمعة، إضافة إلى ذلك، كان نصر الله يخاطب حاضنة شعبية مرتبكة بعد الخسائر التي مني بها حزبه خلال الأسبوعين الأخيرين، وذهب يعزف اللحن الطائفي (تحدث عمن يلبون نداء العشق الحسيني!!)، وراح يفصّل في خسائره «المحدودة»، من أول يونيو، وهي 26 قتيلا وأسير ومفقود، ولم يذكر الجرحى بالطبع، لكنه حين جرد حسابات «الأعداء»، فصّل أكثر بالحديث عن 617 قتيلا، و800 جريح، وفصّل في الآليات التي أعطبت، ولاحظوا الدقة في الأرقام (حصل بها من أخبار التنسيقيات كما قال!!)، لكن عموم حديثه عن «الصمود» بعد أحاديث كثيرة سابقة عن الانتصارات كان يخفي شعورا بالهزيمة، وأقله الارتباك، فوعود الانتصار تكررت كثيرا، ولم تصدق، وها هو الحليف الروسي يتحدث عن حل سياسي، ويتهمه نصر الله ضمنا بأنه أفاد «التكفيريين»، بقرار وقف إطلاق النار الذي أعلنه.
في خطابات سابقة، كانت القصير ثم حمص، ثم الزبداني، طريقا للقدس، واليوم حلب، صارت «المعركة الكبرى» (صحيفة تابعة عنونت لخطابه بالقول: «نصر الله: مصير المشرق في حلب»). ومصير المشرق بالطبع يعني مصير مشروع التمدد الإيراني الذي يعتبر نصر الله واحدا من أدواته.
من الطبيعي والحالة هذه، أن يُتهم بأنه ليس حزبا لبنانيا، ومن اتهموه من أبناء الطائفة الشيعية بأنه «يفرسن» الطائفة محقون، والحديث عن قتال «التكفيريين» لا ينطلي على أحد.
نصر الله يواصل الخطابة لترميم مشاعر حاضنته الشعبية، ويسوّق تبريرات تتغير بحسب الظروف، من الدفاع عن حدود لبنان، إلى حماية ظهر المقاومة، إلى الدفاع عن المراقد، إلى حماية مصير المنطقة، أو بتعبير أدق، مصير مشروع التمدد الإيراني المجنون، ذلك الذي يُفترض أن يضم لبنان لاحقا كجزء من ولاية «صاحب الزمان»، ومندوبه الخميني ثم خامنئي بحسب خطاب قديم له (لو غيّر خامنئي مواقفه غدا فسيغير)!!;