يبرز رجال في زمنٍ ما، بأفكارٍ ما. يلتف حوله/حولها الناس. يؤمنون بأفكاره كمنهج يرونه صالح لحياتهم. يتوسع الأمر، فتصبح تلك الأفكار في إطار منظم: حركة، جماعة، حزب.. أو أي شكل آخر.. تتجسد كقناعات. ثم تأخذ تتسع وتلف إلى داخلها البشر.. لتملأ الأرجاء وتعبر الحدود، وتتعاقبها الأجيال، جيلاً بعد آخر.
إلى هنا يبدو كل شيء على ما يرام.
يبدأ ما ليس على على مالا يرام، أو الانحراف الجوهري في طبيعة فهم الإنسان للأشياء من حوله: حين يقوم معظم أتباع أي فكر، ابتكره رجلاً ما، في زمن ما، من أزمنةٍ ماضية؛ بمنح تلك الأفكار [هالة القداسة، والتأليه] أخذينها كما هي، كما صاغها ذلك الرجل بقدراته البشرية حسب طبيعة زمنه الماضي، وكأنها وحيٌ نزل من السماء عليه فصار نبي. أو رجل خارق لم يخطئ أبداً، قد قال كل شيء، وأجاب عن جميع الأسئلة، وفي منهجهِ كل الحقيقة، كل الصواب، كل الحكمة.. والنهاية التي يرنوا إليها جميع البشر.
فتقوقع كل فريق داخل علبة أفكاره، وراح يحميها بروحه وجسده وأيامه. فلا تعديل عليها، لا نقاش حولها. تُغَلف عقول أتباعها، وتحول بينهم وبين الأفكار الأخرى؛ إذ تصبح بطريقةٍ ما، في معتقداتهم قرينة الدين، أو دين موازي.. ثم تغدو لمعتقدها: عالمه، وخياله، وتفكيره، وإطلاعه، وقراءته وثقافته، والحكاية التي يستلذُ بروايتها، دون ملل، على الدوام لكل الناس؛ كأنها وصيةُ النبي الأخيرة!!
يمر الزمن، يأتي زمن آخر، حياة أخرى، عام آخر، وكل طائفةٌ تمضي بذات الثياب. حتى لا يرى بعض البعض، أن زراراً ما، لم يعد صالحاً في ذلك الثوب القديم. وإن راء أحدهم ذلك؛ جلدوه قبل أن تمس يداه ذلك الزراز الذي لم يعد يُرى من شدة الصدأ.
ذهب زمن الأصنام، فخلق الإنسان له أصناما أخرى من الأفكار والبشر، ثم راح يعبدها، ويُعَبّد الناس لها، ويُبسلها عقله ثوبَ قداسة.. القداسة أخطر شيء يرتكبها الإنسان بحق نفسه وبحق وهذا الوجود!
القداسة، مبدأ ضد الحركة والاستكشاف والجدادة.. فالمجتمع الذي حركته بطيئة واكتشافه محدود؛ فالقداسة هي من تحكمه كثقافة جمعية، والعكس صحيح. عندما نقدس الله، نكون أكثر تحرراً وحركة، وعلى نمو مستمر في كل شيء، لأنه يأمرنا بذلك بشكل مكثف، الأمر الذي هو نقيض القداسة. وعلى العكس عندما نقع في بركة تقديس بشر ممن خلق، مثلنا، مثلي ومثلك، قارئي الكريم. هذه ليس دعوة ضد فكرة التأطر بمنهجٍ ما، أي منهج، بل إشارة إلى خطورة تقديس تلك الأفكار.!